icon
التغطية الحية

فورين بوليسي: كوبلينز تسحق أي أمل للنظام بالتطبيع مع أوروبا

2020.10.20 | 06:18 دمشق

gettyimages-1210701727.jpg
فورين بوليسي-ترجمة وتحرير: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

لم يخضع رأس النظام في سوريا بشار الأسد الذي تحدى الجميع لأي محاكمة، بما أن أسياده في روسيا لا يرغبون باستبداله حتى الآن على أقل تقدير، غير أن المحاكمة المستمرة التي تجريها محكمة ألمانية في مدينة كوبلينز الهادئة لمسؤولين في النظام، وهما أنور رسلان وإياد الغريب تعمل بهدوء وثبات على سحق أي أمل للنظام بقيام أوروبا بتطبيع علاقتها مع هذا النظام خلال المستقبل القريب. كما أن هذه المحاكمة زرعت الأمل في نفوس ملايين اللاجئين السوريين في ألمانيا ممن يعيشون تحت ضغط الخوف من إجبارهم على العودة إلى بلدهم، بأن من يستضيفونهم لابد وأن يدركوا مدى ضعفهم في نهاية المطاف.

فقد كشفت المحكمة حتى الآن عن شاهد واحد، وذلك في الشهادة التي تقدم بها ناجون من السجون السورية، وكذلك تلك التي تقدم بها أقارب من قتلوا تحت التعذيب، بالإضافة إلى شهادات الخبراء وعناصر مقربة من النظام، بشكل أوضح عن مدى بشاعة الجرائم التي ارتكبتها حكومة النظام ضد الإنسانية. إذ لأول مرة، أصبح بوسع شخصيات من خارج سوريا أن تدرك إلى أي مدى تحولت تلك الفظائع إلى روتين حياة اعتيادي في ظل حكم الأسد.

وفي التاسع من شهر أيلول/سبتمبر، وهو اليوم الثلاثون من المحاكمة الجارية في كوبلينز، وعند الساعة الحادية عشرة وعشر دقائق صباحاً، عرضت على المحكمة أهم شهادة مرت عليها حتى تاريخه، ألا وهي شهادة حفار قبور سوري كان عضواً في فريق قام بدفن عدد لا يعد ولا يحصى من الجثث المشوهة والممثل بها، حيث مثل هذا الرجل أمام المحكمة، وشرح بشكل تفصيلي من خلال شهادته كيف كان يتم إحضار الجثث ليس فقط من فرع الخطيب الأمني الذي كان رسلان يترأسه في دمشق والذي يعرف أيضاً باسم الفرع 251، بل أيضاً من فروع أمنية ومخابراتية عديدة في سوريا، بينها فروع عسكرية، وذلك خلال الفترة الواقعة ما بين 2011 و2017. ولضمان سلامة عائلته في سوريا، ظهر حفار القبور هذا وقد غطى وجهه وتمت الإشارة إليه على أنه الشاهد Z  30/07/19.

"أنهار من الدم والدود"

وقد سبق وأن قام ناشطون محليون وأجانب بنقل وقائع التعذيب التي انتشرت على نطاق واسع بحق المدنيين، كما سبق وأن سرب مصور عسكري، اسمه الحركي قيصر، 50 ألف صورة تثبت ذلك التعذيب والقتل الميداني، إلا أن ما قدمه الشاهد Z رسم لوحة لما كان يجري بعد ذلك، فقد ذكر أمام المحكمة وضع الجثث التي صادفها، وما الذي حدث لأصحابها، وبأمر من تم ذلك، وقد حصلت مجلة فورين بوليسي على نسخة من شهادته التي قال فيها: "كانت هنالك أنهار من الدم والدود" الذي يخرج من تلك الجثث، "وفي إحدى المرات لم أستطع تناول أي شيء لعدة أيام". كما أن بعض الجثث عانت من تفسخ وتحلل كامل لدرجة أصبحت الوجوه فيها "لا يمكن التعرف عليها"، وكأنها قد شوهت عمداً بواسطة مادة كيماوية. ثم إن رائحة الجثث المتعفنة النتنة كانت أكثر ما يزعجه ولم تبارح أنفه حتى اليوم، إذ يقول: "كانت الرائحة تبقى عالقة في أنفي حتى بعدما أستحم في البيت".

هذا ويعتبر الشاهد Z مجرد جزء صغير من آلة النظام الكبرى التي اعتقلت المتظاهرين السلميين وكل شخص كان مع المعارضة أو حتى كان يؤيدها، حيث قامت بتعذيبهم في مراكز الاحتجاز والسجون، وأعدمت الكثير منهم، وأقامت مقابر سرية لهم، فأصبح الشاهد Z جزءاً من ذلك الفصل الأخير. وبما أنه لم يكن يطيق رائحة النتن التي تصدر من الجثث، لذا أوكلت إليه مهمة نقل الرجال الذين يقومون بدفن الجثث، إلى جانب تدوين أعداد القتلى بجانب اسم فرع المخابرات الذي أتوا منه، أي أن أجهزة المخابرات التابعة للدولة هي المسؤولة عن مقتل كل شخص من هؤلاء المعتقلين.

والشاهد Z كان في السابق جزءاً من نظام الأسد في محافظة دمشق، حيث كان يقوم بدفن من ماتوا لأسباب طبيعية حتى بدء انطلاق الثورة في سوريا عام 2011. وبعد مرور بضعة أشهر على المظاهرات المناهضة للنظام التي اجتاحت سوريا، أصبح يقود سيارة شاحنة صغيرة تقل ضابطي استخبارات، وهذه المركبة لم تكن لديها لوحة تظهر رقم الترخيص، بل كانت مغطاة بملصقات تصور الأسد، وبواسطتها كان ينقلهما إلى المقابر الموجودة في ضواحي المدينة. وفي تلك المركبة، التي كان تقل ما بين 8 إلى 12 رجلاً، كان ينطلق بهم في بعض الأحيان إلى المقابر الموجودة في نجها والقطيفة، وفي مرات أخرى كان ينتظر أولاً عند مشفى تشرين أو مشفى حرستا العسكريين، إذ كان يركن المركبة في الخارج، وقد شاهد الشاهد Z شاحنات تبريد طولها 35 قدماً (ما يعادل 11 متراً تقريباً) وقد رصدت فيها جثث تتراوح ما بين 200-700 جثة، يصحبها عادة ضابط عسكري واحد على الأقل، أما هذا الشاهد فيتلخص دوره بأن يتبع تلك الشاحنات إلى المقابر.

ويتذكر هذا الرجل كيف بدت المقابر كمعسكرات "تحتوي على عدة قطعات للجيش" حسب قوله، وكان دخول المدنيين ممنوعاً، إذ كان هنالك حاجز تفتيش عند التقاطع الذي يؤدي إلى كلا موقعي الدفن، وقد عين على ذلك الحاجز ضابط برتبة عقيد، حسب وصفه، إذ يقوم هذا العقيد بالتعرف على الشاحنة الصغيرة ثم يلوح له، فقد كانت لديه "تعليمات" حسبما ذكر الشاهد Z للمحكمة.

وفي المقابر، قام زملاء الشاهد Z الذين كلفهم النظام بالقيام بتلك المهمة بفتح شاحنات التبريد ورمي الجثث واحدة تلو الأخرى بطريقة عشوائية وذلك ضمن خنادق عمقها ستة أقدام (ما يعادل مترين تقريباً) وطولها يتراوح ما بين 160-330 قدماً (ما بين 49- 100 متر تقريباً)، ثم قال: "بعد حوالي 40 إلى 50 عملية تفريغ، امتلأت الحفرة". كانت تلك العملية تتكرر أربع مرات في الأسبوع، على مدار ست سنوات على أقل تقدير، حيث تم خلالها دفن آلاف الجثث دون الاحتفاظ بأي مظهر من مظاهر إكرام الميت، إذ لم يتواجد أقرباء المتوفين، ولم تقم صلاة الجنازة عليهم، بل أقيمت لهم مجرد حفرة واسعة في قلب الصحراء الواسعة التي تمتد خارج المدينة.

وقد وثق هذا الشاهد بأقواله وعزز ما ساقه قيصر، ذلك المصور العسكري الذي قام بتصوير الجثث في المشافي العسكرية، وذلك عندما ذكر أمام المحكمة بأن كل جثة كتب على جبينها أو صدرها رقم فرع المخابرات أو الأمن العسكري.

وفي تلك المقابر، ساعد الشاهد Z ضباط النظام الذين تم فرزهم إلى هناك في وضع قوائم بأعداد القتلى والمكان الذي تم تخريج تلك الجثث منه، ثم أورد أسماء بعض أفرع المخابرات التي يخشاها الجميع في البلاد، مثل فرع الخطيب، وفرع فلسطين، وكذلك "من فرع المخابرات الجوية التي تضم المخابرات العسكرية ومن كل الفروع التي تنتمي لنظام الأسد".  

أجساد دافئة

وبما أن الشاهد Z قد ضاق ذرعاً برائحة الجثث المتعفنة التي تفوق قدرة أي أحد على الاحتمال، لذا فقد كان يبقى على مسافة عدة مترات بعيداً عن تلك الخنادق، إلا أن من قتلوا في سجن صيدنايا سيء الصيت لم تكن تصدر منهم أية روائح كريهة، فقد أخبر الضابط الذي أتى بالجثث القادمة من صيدنايا من المشافي الشاهد Z بأن السبب في ذلك يعود لأنهم قتلوا في اليوم نفسه، ولهذا كانت أجسادهم ما تزال دافئة، وعليها علامات التعذيب التي لا يمكن لأحد أن يخطئها، وقد أكد الشاهد Z بأنه رآها. ثم إن الكثير من تلك الجثث كانت ماتزال مقيدة بالأصفاد، وقد اقتلعت أظافر أيديها وأرجلها، حيث ذكر الشاهد Z: "كانت هنالك آثار عمليات الإعدام على رقابهم" وفي تلك الشهادة ما يدعم النتائج التي توصلت إليها منظمة العفو الدولية غير الحكومية.

فقد نشر تقرير لمنظمة العفو الدولية في عام 2017 خلص إلى أن الآلاف من الناس قتلوا في إعدامات جماعية تمت عبر الشنق في صيدنايا وذلك ما بين عامي 2011 و2015، إذ إن محاكمة هؤلاء الضحايا كانت تستغرق ما بين دقيقة إلى ثلاث دقائق في محكمتي ميدان عسكريتين، وكان يشار إلى الأيام التي تقوم فيها سلطات السجن بتلك الإعدامات على أنها "الحفلة". وقد ساق فيليب لوثر وهو مدير الأبحاث والدفاع لدى منظمة العفو في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عدد المرات التي ورد فيها ما يؤكد ذلك في شهادة Z، وتشمل الفترة الزمنية وطريقة القتل. كما خلص تقرير منظمة العفو إلى أن حملة الرتب العليا في الحكومة هم من أجازوا عمليات القتل تلك إذ ورد في ذلك التقرير: "كانت أحكام الإعدام تحصل على موافقة من قبل المفتي الأعلى لسوريا، وكذلك على موافقة إما وزير الدفاع أو قائد الأركان في الجيش، بما أنهما مفوضان بالتصرف نيابة عن الرئيس بشار الأسد".

أما باتريك كروكر وهو محام يدافع عن القضية في كوبلينز كما أنه مستشار قانوني رفيع المستوى لدى المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان الذي يدعم 16 سورياً في تلك المحاكمات، فقد ذكر بأنه لا يوجد أي دليل على توقف نظام الأسد عن ارتكاب مثل هذه الجرائم، بل إن الشهادة التي أدلى بها Z تثبت العكس، ورأى بأن هذه المحاكمة لابد وأن تؤثر على السياسة الأوروبية تجاه سوريا بصورة أوسع، إذ يرى كروكر بأن مجرد التفكير بتطبيع العلاقات مع نظام كهذا تبدو فكرة مرفوضة ومقرفة، حيث عبر عن ذلك بالقول: "هنالك شخص يقدم لنا أدلة حول مواصلة حفر قبور جماعية حتى عام 2017 على الأقل، إذن تلك هي الحكومة أو النظام الذي لم تقيموا أي علاقات معه".

كما أكد هذا الرجل على الأهمية القانونية الدائمة للمحاكمة ولما فضحته تلك الشهادات، وأضاف بأن الأدلة التي وضعت بين أيدينا الآن لابد وأن تسهل قيام محاكمات ضد مسؤولين في النظام مستقبلاً في حال تم القبض عليهم عند سفرهم إلى أوروبا، ويعلق على ذلك بالقول: "إن مجرد القيام بعمليات التعذيب يعتبر جريمة ضد الإنسانية في حال تم ارتكابها ضمن سياق محدد، أي ضمن هجوم واسع وممنهج ضد المدنيين، وقد أوضحت شهادة Z بأن تلك الجرائم كانت ممنهجة".

الأدلة تؤثر على سياسة اللاجئين في ألمانيا

وفي نهاية المحاكمة، حتى ولو كان النصر فيها رمزياً وتم من خلالها إدانة مسؤولين من ذوي الرتب المتوسطة لدى هذا النظام فحسب، إلا أن الخبراء يعتقدون بأن الأدلة بدأت تؤثر على سياسة اللاجئين في ألمانيا. ففي ظل هذه الشهادات، بات من الصعب على الشعبويين مطالبة اللاجئين بالعودة إلى سوريا. إذ ترى بينتي شيلار وهي رئيسة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لدى مؤسسة هنريك بول بأن وزراء الداخلية في ولايات ألمانيا الاتحادية يناقشون كل ستة أشهر إمكانية إعادة اللاجئين، "ولكن من خلال ما سمعناه في المحاكمات حول كل ما يجري في سوريا يستحيل قطعاً قيامنا بترحيل الناس"، وأضافت بأن هنالك أملاً بأن تخفف تلك المحاكمات من حدة المواقف التي يبديها الألمان تجاه اللاجئين، حيث عبرت عن ذلك بالقول: "لا يمكن لأحد أن يزعم أنه لم يسمع بهذا، وأنه لم يطلع على ما جرى".

وهكذا أصبح الأوروبيون على اطلاع بالمحنة التي تعرض لها السوريون خلال فترة طويلة وكيف هربوا من بلادهم ليس فقط بسبب القذائف والصواريخ ولأنهم عانوا من الحرمان بسبب الحرب فحسب، بل أيضاً بسبب التعذيب الذي أصبح ظاهرة عامة وكذلك عمليات القتل الوحشية التي تمت على يد النظام. وتظهر شهادات مثل الشهادة التي تقدم بها Z بأن عمليات القتل لم تتم بشكل عشوائي واعتباطي على يد بعض الضباط، بل إنها جرائم نظمتها العديد من أجهزة الدولة التي كان أشخاص مثل الشاهد Z يحتلون المراتب الدنيا ضمن السلسلة التي ترفدها، ولم يكن أمامهم أي خيار سوى أن يطيعوا الأوامر.

المصدر: فورين بوليسي