يتعرض بشار الأسد لأعظم تهديد حقيقي لنظامه عاشه منذ سنين، بعد أن سيطر الثوار خلال الأسبوع الماضي على حلب إحدى أكبر المدن في سوريا، إلى جانب سيطرتهم على عدد من القرى والبلدات الأخرى، من خلال هجوم مباغت.
بدأ الزحف إلى حلب عقب هجوم شنته هيئة تحرير الشام في السابع والعشرين من تشرين الثاني، والهيئة عبارة عن جماعة مقاتلة تتبع للمعارضة وكانت في السابق أحد فروع تنظيم القاعدة، وتسيطر حالياً على معظم أرجاء محافظة إدلب الملاصقة لمحافظة حلب. وبفضل مسيرات كاميكازي المصنعة محلياً، فاجأت الهيئة قوات الأسد، ما دفعهم إلى الانسحاب نحو مناطق بعيدة أضحت اليوم تحت سيطرة الهيئة. وقد تكبد كلا الطرفين خسائر جسيمة، إذ قتل ما لا يقل عن 446 مقاتلاً ومدنياً منذ 27 تشرين الثاني بحسب ما أعلنه المرصد السوري لحقوق الإنسان.
كما نزح أكثر من 14 ألف إنسان بسبب العنف الذي دار مؤخراً بحسب ما أعلنته منظمة بنفسج الإغاثية، ولكن، وللمرة الأولى منذ ثماني سنوات، عاد معظم المنشقين عن النظام إلى مدنهم وقراهم التي أصبحت تخضع اليوم لسيطرة هيئة تحرير الشام.
بدأت الحرب السورية في عام 2011 بعد أن قمع نظام الأسد وبشكل عنيف المتظاهرين المطالبين بالديمقراطية، ما تسبب بقيام نزاع حصد حتى الآن أرواح نصف مليون إنسان وتسبب بنزوح أكثر من سبعة ملايين من أبناء الشعب السوري، وكانت حلب تعتبر أحد المعاقل المهمة للمعارضة حتى عام 2016، عندما استعاد نظام الأسد المدينة بفضل القصف الروسي.
الهيئة بعد تبنيها لنهج أشد اعتدالاً
أمر زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني مقاتليه بحماية جميع المدنيين، وبينهم مسيحيون، إلى جانب حماية المستسلمين من جنود النظام السوري، وذلك بحسب ما ذكره الصحفي المقيم في إدلب فريد المحلول، إذ بعد أن فكت الهيئة ارتباطها بتنظيم القاعدة قبل نحو ثماني سنوات، سعت لتقديم نفسها من جديد بصورة أكثر اعتدالاً مما كانت عليه في السابق، بيد أن معظم أهالي المناطق التي سيطرت عليها الهيئة مؤخراً تنتابهم حالة تشكيك كبيرة بشأن حياتهم وكيف سيصبح شكلها تحت حكم هيئة تحرير الشام.
قصف متواصل ووضع خطير
أتت حالات التصعيد الأخيرة في شمال غربي سوريا في وقت انشغل داعمو الأسد الكبار في الخارج بنزاعاتهم الخاصة، إذ أعطت روسيا الأولوية لحربها في أوكرانيا، واعترى كلاً من إيران ووكيلها حزب الله ضعف كبير من جراء القتال مع إسرائيل، ومع ذلك استهدف القصف الجوي الروسي والسوري محافظتي إدلب وحلب خلال يومي السبت والأحد، في حين عبرت مؤخراً ميليشيات مدعومة إيرانياً من العراق إلى سوريا، وعلى رأسها كتائب حزب الله وفاطميون، وذلك بحسب ما أعلنته قناة العربية الإخبارية السعودية.
يعلق محلول على ذلك بقوله: "منذ يوم الأحد لم يتوقف القصف الذي استهدف عدداً من المدارس والمراكز الطبية في محافظة إدلب".
وفي الأول من كانون الأول، ضربت غارة جوية مشفى الجامعة في حلب فقتلت ما لا يقل عن 12 شخصاً وأصابت العشرات غيرهم بجراح، كما دمرت الغارة سيارات الإسعاف التابعة لمنظمة بنفسج بحسب ما ذكره يمن سيد عيسى وهو المنسق المعني بالإعلام والتواصل لدى هذه المنظمة الإغاثية، وفي اليوم نفسه، استهدفت غارات جوية أخرى مشفى الجامعة بإدلب، ومشفى ابن سينا، والمشفى الوطني بإدلب، ومديرية الصحة بإدلب، وبحسب ما ذكره عيسى فإن طائرة حربية تعود للحقبة السوفييتية ضربت مخيماً للنازحين قريباً من بلدة معرتمصرين التي تقع شمالي مركز المحافظة بإدلب، فأسفر ذلك عن مقتل ما لا يقل عن سبعة مدنيين بينهم خمسة أطفال وامرأتين، وقد قدم فريق بنفسج الطبي الإسعافات الأولية عقب تلك الهجمات.
يعلق عيسى على الوضع بقوله: "إن الوضع خطير جداً على الجميع، فمسعفونا وسيارات الإسعاف لدينا تخرج بصورة يومية، ولكنهم يخشون على الدوام من الاستهداف"، وأضاف أن حلب تؤوي نحو مليوني نسمة لكنها أصبحت الآن تعاني من شح في المواد الأساسية مثل الخبز والماء والوقود والمعدات الطبية والتي كانت تصل إليها قبل ذلك من المناطق التي يسيطر عليها النظام.
وأضاف عيسى: "أصبح كل شيء الآن يأتي من إدلب، لكن الوضع صعب، والوضع الإنساني مأساوي، إذ بات على الناس أن يعثروا على مأوى أنى استطاعوا لذلك سبيلاً، ففي بلدة دركوش على سبيل المثال، تحول مسبح عام إلى مأوى مؤقت للنازحين من قراهم، وقد اضطرت معظم الأسر النازحة إلى العيش في حقول ومزارع مفتوحة، من دون أن يتوفر لديهم أي مأوى مناسب أو حتى أبسط المرافق الأساسية".
الوسيطان: روسيا وتركيا
إن تقدم هيئة تحرير الشام يعني أن حلب أصبحت تحت سيطرة المعارضة لأول مرة منذ ثماني سنين، إذ بقيت الجبهة هناك مجمدة منذ أن توسطت روسيا وتركيا لعقد اتفاق وقف إطلاق النار في عام 2020، بما أن كلتا الدولتين تدعمان أحد الطرفين المتحاربين في سوريا.
تعتبر روسيا، إلى جانب إيران وحزب الله، من أهم حلفاء الأسد، في حين تدعم تركيا الجيش الوطني السوري، وهو عبارة عن تحالف تنضوي تحته فصائل المعارضة، ومن بينها هيئة تحرير الشام، وهذه الفصائل تحارب نظام الأسد والقوات الكردية مثل وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني اللذين تعتبرهما تركيا تنظيمين إرهابيين.
منذ الهجوم الأخير للثوار، تخلى نظام الأسد عن مناطق داخل محافظة حلب وتركها تحت سيطرة الكرد، في حين يواصل الجيش الوطني صد الجماعات الكردية ودفعها نحو أقصى الشرق، ففي الأول من كانون الأول، سيطر الجيش الوطني على مدينة تل رفعت الاستراتيجية التي تقع بين حلب والحدود التركية، إذ خلال السنوات الثماني الماضية، خضعت تلك المنطقة لسيطرة وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني الذي يمثل تهديداً أمنياً كبيراً على تركيا.
اختلافات عقائدية بين هيئة تحرير الشام والجيش الوطني
لطالما شاب التوتر العلاقة القائمة بين هيئة تحرير الشام والجيش الوطني، بما أن الهيئة حاولت أن تسيطر على مناطق سيطرة الجيش الوطني، فخون الجيش الوطني الهيئة لأسباب كثيرة، من بينها الاختلافات العقائدية بينهما، غير أن كلا الجماعتين تشتركان بهدف واحد، وعن ذلك يقول عروة عجوب الذي يدرس الجماعات الإسلامية في سوريا والمرشح قريباً لنيل شهادة الدكتوراة من جامعة مالمو السويدية: "الأولوية لمحاربة النظام، ولقد تحدثت إلى أشخاص يعتبرون من ألد أعداء هيئة تحرير الشام حتى هذه اللحظة، لكنهم وضعوا اختلافاتهم جانباً وهبوا لمحاربة النظام، أما الهيئة فتترأس تلك المساعي، وعندما تضع الحرب أوزارها، سنرى كيف ستعمل هذه الجماعات المختلفة على حل ما تختلف عليه".
الوجود العسكري والمساعي الدبلوماسية
لدى تركيا عساكر في سوريا، معظمهم موجودون في إدلب وعفرين وغيرهما من المناطق الواقعة شرق نهر الفرات، وذلك لدعم عمليات تركيا ضد حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب، كما يوجد نحو 900 جندي أميركي في سوريا، معظمهم موجودون في شمال شرقيها، ويدعم هؤلاء عمليات محاربة الإرهاب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
يقدم محللون كثر تكهنات عديدة حول احتمال إعطاء تركيا الضوء الأخضر لهيئة تحرير الشام حتى تقوم بهذه العملية، بما أن تركيا ترغب في الحد من نفوذ حزب العمال ووحدات حماية الشعب، غير أن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، قال إنه من الخطأ أن يحاول المرء عزو الوضع الحالي في سوريا إلى التدخل الخارجي.
يذكر أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حاول أن يصلح العلاقات مع الأسد خلال شهر تموز الماضي بعد أن تدهورت العلاقات بين البلدين طوال فترة الحرب السورية، بيد أن الأسد أصر على انسحاب القوات التركية بشكل كامل من سوريا قبل أن يدخل في مفاوضات مع أردوغان، وتركيا لا ترغب في تحقيق هذا المطلب بسبب المخاوف التي تنتابها بشأن أمنها القومي.
وفي حوار مع وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكين جرى في الأول من كانون الأول، أكد فيدان على رفض تركيا لحالة انعدام الاستقرار في المنطقة، وشدد على أهمية الحد من حالات التوتر القائمة في سوريا، كما وصل وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى تركيا في الثاني من كانون الأول لمناقشة الأوضاع في سوريا، وفي مؤتمر صحفي جمعه مع عراقجي، قال فيدان: "تكشف التطورات الأخيرة من جديد بأنه يجب على دمشق أن تتصالح مع شعبها ومع المعارضة الشرعية، وإن تركيا على استعداد لتقديم كل التعاون اللازم لتحقيق ذلك".
وسواء أكانت تركيا على علم بذلك أم لا، يرى عجوب بأن: "هذه العملية فيها مكسب لتركيا قطعاً"، فقد تحدث الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، عن احتمال سحب ما تبقى من الجنود الأميركيين في سوريا، مما قد يخلق فراغاً في السلطة في هذه المنطقة، ولهذا يضيف عجوب: "إن زيادة النفوذ في سوريا قبل تولي دونالد ترامب لمنصبه يمكن أن يحمل بين طياته أهمية كبيرة بالنسبة لتركيا".
المصدر: The Foreign Policy