فنزويلا وكوريا الشمالية وسوريا وإيران ولبنان: انتصارات لا تنتهي

2019.03.31 | 00:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أسهل حل للتخلص من التعاسة والبؤس هو إلقاء المسؤولية على الآخر، أو الشيطان، أو القدر.. أو لوم الحظ التعس.

في أحوالنا المزرية اليوم، كما لعقود خلت، أميركا وإسرائيل هما ذاك "الآخر"، الشيطان الذي يُنزل بنا المصائب. وهذا أشبه بعقيدة، أو "نظرة إلى العالم" لا تتبدل. ويمكن القول إنه معتقد منتشر أيضاً في بعض "العالم الثالث".

يمكن للرئيس الفنزويلي نيكولا مادورو، وريث هوغو تشافيز، أن يتنصل من الكوارث التي حلّت بفنزويلا، عقب فشل السياسات الاقتصادية (خليط من الشعبوية والاشتراكية) على مدى عقدين، محمّلاً الولايات المتحدة الأميركية المسؤولية، طالما أن فنزويلا تتبنى أيضاً خطاباً سياسياً معاديا للرأسمالية ومنظومتها الإمبريالية.

يكفي إلقاء تهمة التآمر على أميركا واتهامها بالشر

ليس على مادورو ولا على الفنزويليين ولا على نخبهم السياسية القول "إن خياراتنا كانت سيئة، وقرراتنا غير صائبة، وخططنا فاشلة، وأداءنا كارثي، وسياستنا معاكسة للواقع..". لا، يكفي إلقاء تهمة التآمر على أميركا واتهامها بالشر، لتشعر السلطة الفنزويلية أنها قامت بواجبها. أما بعد ذلك، وسؤال ما العمل، فليس وارداً.

في السياسة، هذه هي وصفة الانتحار. انتحار البلد كي لا تسقط السلطة، وكي لا يخضع الحاكم لمذلة الاعتراف بالفشل والتنحي. 

بين أعوام 1950 و1953، خاض كيم إيل سونغ، بدعم روسي وصيني، حرباً لتوحيد كوريا تحت حكمه الشيوعي. كانت واحدة من أشد الحروب ضراوة وكلفة بشرية وعمرانية بعد الحرب العالمية الثانية، عدا عن كونها عبثية بالكامل ولا مبرر لها.. وخسرها كيم إيل سونغ، الذي عمد لمداراة الهزيمة الفادحة واستحقاق المساءلة ومراجعة جدارته في القيادة، إلى تصفية كل المنافسين له والمعارضين والمتشككين أو الذين يشك ويشتبه بهم.. قاد حرباً على القسم الشمالي من كوريا التي يحكمها، في واحدة من أوسع عمليات التطهير التي شهدها العالم على النمط الستاليني، وأعاد "صناعة" مجتمع كوريا الشمالية على نحو جعل من هذا البلد أكثر الدول عزلة وأشدها غرابة وانحرافاً.

ومنذ 66 عاماً، يعيش مواطنو كوريا الشمالية في واحدة من الخدع الأكثر دواماً، أي الظن أن الحرب المنتهية عام 1953 لم تتوقف حتى اليوم، وأن الولايات المتحدة الأميركية واليابان و"الأمم المتحدة" تعمل كل اليوم على تحضير غزو للبلاد الذي لا يمنعه إلا وجود سلالة كيم في السلطة. بهذا الإيمان، لا يسع الكوريين الشماليين التساؤل عن شدة فقرهم، وعن تخلفهم الفادح في كل شيء، وعن المجاعات التي فتكت بهم، ولا الشكوى أو التشكيك في نجاعة سياسة حكوماتهم، طالما أن "الشيطان" الأميركي هو السبب في هذه البلايا. وفي هذه الحال، من الصعب تخيل أحد من أصحاب هذا الإيمان أن يسأل نفسه: "لكن كيف السبيل للتخلص من العيش في العداوة وحدها".

مع الثورة الإيرانية، ارتقت الولايات المتحدة إلى مرتبة "الشيطان الأكبر" (والغرب كله، وباقي الأمم "الكافرة"). ومع تداعيات هذه الثورة في إيران والخليج ووسط آسيا، وكامل الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، حلت حروب عديدة ومآسٍ، ووقعت فتن مذهبية وأهلية وقومية، وارتدّت جماعات وشيع إلى أصوليات وسلفيات وعصبيات وتصورات دينية هذيانية كبرى، منافية للتاريخ والحداثة ولجريان العالم ووجهاته، واقترحت عالماً إنسانياً بديلاً، وحملت وعوداً خلاصية لمن "سيرث الأرض".

وكانت حصيلة هذا الزلزال العظيم وارتداداته العنيفة، انهيارات لا قدرة على سبر غورها، وتصدعات مهلكة لأوطان ولهويات وطنية وخراب دول بأكملها، وتأخر عن سيرورة العالم وتطوره من الصعب تعويضه. أُهدرت تريليونات كانت كافية لا لوضع دول المنطقة بمستوى الاقتصادات الناجحة، بل لازدهار الاقتصاد العالمي برمته، عدا عن مستويات التعليم والصحة والبيئة والعمران ونوعية الحياة اليومية.

انتهت الثورة الإيرانية وعوارضها ونسخها إلى حصاد مرير وفقر وعداوات متناسلة

انتهت الثورة الإيرانية وعوارضها ونسخها إلى حصاد مرير وفقر وعداوات متناسلة. ومنعاً لأي مراجعة أو اعتراض أو اختلاف، تحولت إيران إلى دولة العزلة والعداوة والحرب الأبدية والسلطة الطاغية التي لا شرعية لاستمرارها إلا باستمرار سياسة "الصراع".. سياسة إلقاء مسؤولية التعاسة وعمومية الموت على ذاك الشيطان، وتلك المؤامرة. كما سياسة "الخدعة الكورية" إياها، أي تسمية الهزائم "انتصارات".

يحلو لما يسمى "محور الممانعة" الاحتفاء بنفسه بأنه سياسة رفض. متعة الرفض هي "أورغاسم" (نشوة) السياسة عنده. التمسك بالرفض يعادل "الوجود". والنصر يتحقق بممارسة الرفض وحسب، مهما كانت التكلفة.

مثال الجولان مناسب جداً. منذ البداية، منذ صبيحة السادس من حزيران 1967، توضح المصير المنتظر عندما اعتنقت الدولة البعثية شعار: "خسرنا الأرض والحرب، لكن لم يسقط النظام". تم إقناع النفس والجمهور أن المؤامرة انهزمت: هذا هو النصر الحقيقي! استمد النظام من هذه الخدعة التي ذكرنا مثالاتها آنفاً، "شرعيته" المستمرة حتى اليوم على أنقاض سوريا وعلى دماء شعبها وعلى المزيد من الاحتلالات.

في لبنان، المهزلة والخدعة أكثر تعقيداً. بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، وترسيم الأمم المتحدة للحدود (ما يعرف بـ"الخط الأزرق")، توافق النظام السوري وحليفه الإيراني وحزب الله، بحثاً عن مبرر لاستمرار ربط النزاع مع إسرائيل على الأرض اللبنانية، على إشهار قضية جديدة هي "مزارع شبعا". 

وتلك المزارع هي بمعظمها ملكية عقارية لبنانية، لكنها كانت تحت سيطرة الجيش السوري وضمن السيادة السورية عملياً وميدانياً عام1967، وفيها كانت تتمركز أيضاً مخافر الهجانة السورية. وبالتالي فقد تم احتلالها في حزيران 1967، من ضمن احتلال الجولان. وكان الرد الإسرائيلي "الخبيث"! على المطالبة اللبنانية بها أن تعترف سوريا رسمياً أن مزارع شبعا لبنانية. أي أن تتفق الحكومتان اللبنانية والسورية على ترسيم حدودهما، ويتم إبلاغ الأمم المتحدة بهذا الترسيم، ما ينقل مزارع شبعا على نحو لا لبس فيه من أرض سورية محتلة يرتبط مصيرها بالقرار 242 المتعلق بالجولان، غير المنفذّ، إلى أرض لبنانية محتلة مرتبطة بالقرار 425 الذي نفذته إسرائيل عام 2000، ما يجبر إسرائيل على استكمال تنفيذ القرار وإخلاء المزارع لصالح السيادة اللبنانية.

الاستجابة لهذا "الخبث" الإسرائيلي، كان سيحرم محور "الممانعة" من ذريعة قوية لاستمرار المقاومة، وسيُسقط واحدة من أهم الركائز السياسية التي تقوم عليها ديناميكية هذا المحور. لذا، كان الجواب المنسجم مع "متعة الرفض"، امتناع الدولة السورية عن ترسيم الحدود مع لبنان ورفضها الاعتراف الرسمي بلبنانية المزارع.. كي لا تنجح "المخططات والمؤامرات الإسرائيلية". وجميعنا يدرك اليوم أين أصبح الجولان ومعه تلك المزارع.

أسوأ من ذلك، ما يجري في قضية الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، حيث تحت الماء تقبع ثروات الغاز والنفط. بدأت إسرائيل الحفر وأقامت منصات استخراج النفط والغاز، وأنشأت شبكة الأنابيب وعقدت اتفاقات الشراكة مع الأردن ومصر وقبرص واليونان وإيطاليا. أي ببساطة صارت إسرائيل دولية نفطية وغازية، تستثمر ثروتها الجديدة.

أما لبنان الذي يعيش واحدة من لحظاته الاقتصادية العصيبة، ويرزح تحت دين هائل ومتعاظم، وليس عنده ترف الاستهتار بأي مصدر لتمويل خزينته، ولا قدرة على الصمود طويلاً من دون مصدر جديد للتخفيف من أزمته، فلم يبدأ بعد لا في التنقيب ولا في استخراج نفط وغازه. السبب هو الخلاف الحدودي مع إسرائيل، ورفضه الترسيمات المقترحة، الأميركية وغير الأميركية. 

وهكذا، سيكون فقرنا وخراب حالنا من نتاج العدو الغاشم ومؤامراته

ويدرك لبنان، أن غياب أي تسوية أو عدم الإسراع بابتكار قنوات تفاوض، سيحرمه تماماً من استخراج ثرواته البحرية. بل ويعرف لبنان أن إسرائيل لا يضيرها أبداً عدم الاتفاق على ترسيم الحدود، بل وقد يشجعها هذا على أن تسرق فعلياً تلك الثروة الكامنة في قعر البحر داخل الحدود اللبنانية .. فيما لبنان يصدح برفضه واستنكاره. وهكذا، سيكون فقرنا وخراب حالنا من نتاج العدو الغاشم ومؤامراته.

وسيكون حال البحر اللبناني كحال الجولان ومزارع شبعا: إسرائيل تصنع نبيذها هناك، ونحن نسيّر تظاهرات الاستنكار ونشق "طريق القدس" من جونية إلى حلب والقصير وحمص وتعز وصعدة وسائر أصقاع التعاسات المكللة بانتصاراتنا الإلهية.