icon
التغطية الحية

فلسفة أخلاقيات الحرب بين الأمس واليوم

2022.07.10 | 20:51 دمشق

حروب
+A
حجم الخط
-A

لم يخرج العالم خلال مئة عام ونيفٍ من معمعات الحروب، فقد غيَّرت الحربان العالميتان وما تلاها من حروب ساخنة وباردة أنظمة سياسية بأكملها، وأسست لأشكال حكمٍ مختلفة، أمَّا ثورات الربيع العربي،  وهي ليست عنّا ببعيدة؛ فقد أظهرت مدى استبداد أنظمة الحكم العربية، وكشفت الغطاء عن الممارسات اللاأخلاقية التي وصلت إلى حدٍّ يفوق الوصف والخيال، فكرسي الحكم والسيادة دفعت ثمنه شعوب، حريتهم باتت مسلوبة، وهويتهم أضحت ضائعة!

أوجدت أدبيات الحروب، عبر سيرورتها التاريخية ونتاجاتها الفلسفية، منظومةً فلسفيةً أخلاقيةً وسياسيةً تنطلق من مبدأ العدالة في الحروب، وتقوم بالحفاظ على القيم الأخلاقية والإنسانية المتعارف عليها بين المتحاربين منذ أن بدأت النزاعات بين البشر، أي منذ النزاع الأول بين قابيل وهابيل، هذه القصة التي لم يذكرها القرآن عن عبث، إذ تحمل في مضمونها بذوراً لما سيكون في هذه البشرية التي لم تتوانَ عن إفناء بعضها البعض لتحقيق غاياتها ومصالحها.

أخلاقيات الحرب قديماً

يحكي التاريخ القديم قصص شجاعة المقاتلين وإدارتهم للحروب دون انتهاكات لأخلاقيات الفرسان، فقد كانت تلك الأخلاقيات مقياس المروءة في العصور القديمة، ففي العصر اليوناني كان للفلسفة الأخلاقية مكانة في حياة الأفراد المدنيين والجنود على حدٍّ سواء، وخلال مسرحية (فيلوكتيتس Fhiloctetes) التي كتبها المسرحي اليوناني (سوفوكليس) يظهر رفض المجتمع اليوناني للسلوكيات غير الأخلاقية، لاسيما بين الجنود في حالة الحرب، حيث تعبر المسرحية عن التعاطف مع الجندي الجريح الذي أُصيب في الحرب وقد تركه رفاقه ثم يأتي (نيوبتلموس Neoptolemus) ويغدر به ويسرق سلاحه، فيتفاعل الجمهور والممثلون رفضاً لهذا السلوك اللاأخلاقي الذي لا يمتُّ لأخلاقيات القتال في اليونان بصلة.

فقد وضع أفلاطون المقاتلين في درجة سامية لا يسمو فوقها إلا درجة الحاكم العادل، هذا الحاكم الذي كرس حياته لنشر الفضيلة وبناء الدولة، لذا لابد أن يكون الحاكم فيلسوفاً؛ ليكون قرار الحرب قراراً مبنياً على رؤية أخلاقية تُفرض على جميع المقاتلين فيها، وليكون هذا القرار أساساً لا يجب أن يحيدوا عنه، وبذلك بات المقاتل رمزاً للشجاعة والعدالة، فالعسكريون تم تدريبهم على محبة الحق وشرف النفس وعدم اتباع الشهوة ومرونة الذاكرة، ومن يتصف بهذه الصفات يُرشَّح ليتم تدريبه على دراسة الفلسفة والمناهج العلمية، ليفهم الحقيقة ويدافع عنها، وهكذا يترقَّى في حياته العسكرية، وإن ثبت صلاحه ينضم إلى الحكماء الفلاسفة، وقد ذهب أفلاطون إلى أن الفرد ما هو إلا صورة مصغَّرة عن الدولة التي ينبغي أن يدافع عنها، لذا وجب تدريب العسكريين ليس فقط تربية بدنية، بل أيضاً تربية على الآداب والفنون التي تحاكي الوجود الطبيعي أو الحق الذي موضوعه المثال الأعلى أو الشيء بالذات، مما سيجعل منهم أفراداً متحلين بالفضيلة.

إنَّ الحروب في وقتنا المعاصر امتازت بالإضافة إلى قوتها التدميرية والتغييرية، بحالة من اللاأخلاق، إذ لم يكن قادة هذه الحروب يحملون القيم الحضارية التي تسمو بهم إلى قيم أخلاقيَّة

في حين دعا فلاسفة العقد الاجتماعي إلى سنِّ التشريعات التي تفضي إلى السلام ونشر قيم الحرية والعدالة والمساواة، وقد بيَّن جان جاك روسو ضرورة أن يكون العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم عادلاً يحقق له حريته ويصون حقوقه؛ لأنه بموجب هذا العقد سيكون على الفرد واجبات تجاه دولته كما له حقوق عليها، يظهر ذلك في حالة الحرب التي ذكرها في كتابه "العقد الاجتماعي" حين قال: "إن الحرب ليست علاقة رجل برجل, وإنما هي علاقة دولة بدولة أخرى, وفيها لا يكون الأفراد أعداء إلا بصفة عارضة كمواطنين وكمدافعين"، وحتى يكون دفاع الفرد عن دولته صادراً من إيمانه بدولته يجب على الدولة أن تقرَّ كل ما هو أخلاقي يعزز من هذا الانتماء؛ ولأن ذلك سينقل الإنسان من حالة حرب الكل ضد الكل إلى حالة من المجتمع المتعاقد والمؤطر بإطار الدولة التي ستصبح الكيان الوحيد المخول بحق ممارسة العنف.

اللاأخلاقيات الحربية المعاصرة

إنَّ الحروب في وقتنا المعاصر امتازت، بالإضافة إلى قوتها التدميرية والتغييرية، بحالة من اللاأخلاق، إذ لم يكن قادة هذه الحروب يحملون القيم الحضارية التي تسمو بهم إلى قيم أخلاقيَّة تحافظ على الإنسانية، على الرغم من كثرة المنظمات والهيئات التي تدعو للسلم ونبذ العنف بسنِّ القوانين والدعوة إلى حفظ السلم والعيش بأمان بصورة ببغائية جوفاء، فتأثير هذه الحروب لم يقتصر على العسكريين المتحاربين أو البلدان والشعوب المتحاربة؛ إنما طال المدنيين وممتلكاتهم، وقادت إلى موجات من الهجرة واللجوء تعرضت لها الكثير من الشعوب، إلا أن القيم الإنسانية والأخلاقية هي أكبر ضحايا هذه الحروب، حيث تحولت المنظومات الأخلاقية في الحروب إلى مجموعة شعارات فارغة من أي محتوى ومعنى، وقد اختفت خلف ستار العمليات القتالية، وكأنَّه لم يمر على البشرية دعاة أخلاقٍ وفضيلةٍ في تاريخها، لذلك لم تعد مبادئ أخلاق سقراط وأفلاطون وأرسطو وتوما الأكويني أو غيرهم ممن دعوا إلى ضرورة ضبط الحروب أخلاقاً فاضلة، خاصة في الوقت التي سيطرت فيه قيم البراغماتية النفعية والمصالح السياسية وما تدرُّه من فائدة اقتصادية على القادة المتصارعين.

إن حجة الواقعية في ممارسة الفعل السياسي هي أن السياسة ميدانها القوة لا الأخلاق، فكانت المبرر لتجاوز أي اعتبار للأخلاق، وهو فكر يعود بجذوره الحديثة إلى الفيلسوف نيكولا ميكافيلي الذي جعل الغاية تبرر أي وسيلة، فينصح الحاكم الطامح بالسيطرة والبقاء في الحكم باستخدام القوة حتى لو قاد ذلك للتدمير وإعادة البناء مجدداً بروح جديدة تتناغم مع طموح الحاكم الذي استخدم القوة العسكرية اللاأخلاقية في عملية الاستيلاء.

لم تقتصر الحروب المعاصرة على حروب الدول، فقد تحولت في الآونة الأخيرة إلى حرب داخل الدولة تدعمها الدول الخارجية لتحقيق مصالحها، فأغلب الحروب اليوم تقوم بها ميليشيات وجيوش مرتزقة أو دويلات فاشلة، ارتكبت انتهاكات جسيمة وتجاوزات القوانين الدولية واتفاقيات جنيف التي تضمنت ضرورة الحفاظ على الجرحى، والمرضى، والأسرى، والمدنيين، وتجنيبهم ويلات الحرب، دون أي محاسبة، حيث لجأت بعض أنظمة الحكم الاستبدادية لإنشاء ميليشيات مسلحة أو جيوش رديفة غير نظامية للتنصل من ممارساتها اللاأخلاقية، كما حدث في قمع الحكام العرب لثورات الربيع العربي واستخدامهم للبلطجية والشبيحة وقوات عسكرية مرتزقة أو مرتبطة أيديولوجياً مع الحاكم.

ويذهب الكاتب العسكري ديفيد فيشر إلى أن العالم اليوم يمر بأزمة أخلاقية لا يمكن تجاهلها، إلى الحد الذي بات فيه الناس مقتنعين بأن العلاقات بين الدول وممارسة الحياة السياسية وتحريك الجيوش وحروبها مسائل لا يمكن أن يكون لها معايير أخلاقية أو ضابط أخلاقي يوجهها، فبعد أكثر من عقدٍ من القمع الوحشي والتهجير القسري والتغيير الديمغرافي الذي طال بلداً مثل سوريا في ظل ثورات الربيع العربي على سبيل المثال، لم يصدر أيُّ قرار ملزم بوقف انتهاكات حقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، ومنع استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، وفي مصر التي قام الانقلابيون بسرقة ثورة الشعب ضد جلاده ليودع الرئيس المنتخب والشرعي السجن، ثم يتم التخلص منه بقتله بهدف وأد الثورة الشعبية التي ستكون نتيجة نجاحها عودة مصر إلى دورها العربي والدولي وأخذ مكانتها الطبيعية بين الأمم، مما سيمهد لإزالة الكيان الصهيوني عن أرض فلسطين.

في حالة الربيع العربي لم يقف المجتمع الدولي ومنظماته مع إرادة الشعوب الطامحة بالتغيير؛ بل حدث العكس من ذلك، فقد تحولت منظمات السلام هذه إلى عبء على كاهل الشعوب الثائرة من خلال قراراتها التي لم تكن ذات فاعلية حقيقية؛ ممَّا دفع إلى مزيد من العنف الذي تمارسه الجيوش، كما دفع إلى مزيد من الانتهاكات لأخلاق الحرب وقوانينها، إضافة إلى قصور القوانين الدولية التي وُضِعت في معظمها كنتيجة للحربين العالميتين، الأمر الذي منحها طابعاً دولياً دون أن تسد ثغرة النزعات المحلية أو الحروب الأهلية أو استخدام القوة حيال الثورات المحلية، وهذا ما عانته بلدان لم تشملها القوانين السلمية (رواندا ويوغسلافيا، وبلدان الربيع العربي)، فلابد من سد الثغرات في منظومة السلام الدولية، ورفض الانتهاكات المسلحة غير الدولية، وكل ممارسات النظم الاستبدادية تجاه شعوبها، فنحن اليوم لسنا بحاجة إلى المزيد من الهيئات والمؤسسات الداعية للسلم؛ إنما نحن بحاجة إلى تطبيق التشريعات المتفق عليها، وإجراء التعديلات بما يتناسب مع الحفاظ على القيم الأخلاقية للبشرية.

أخيراً: تذهب المنظِّرة والباحثة في الفلسفة السياسية والأخلاقية حنة آرندت للقول بتفاهة الشر، وتذهب إلى أنَّه ممارسة لا أخلاقية، وتربطه بعنف الحروب التي يشنها قادة لا أخلاقيون قد حجبتهم أيديولوجياتهم وبعض آلات الحداثة عن رؤية بشاعة الجرائم المرتكبة في حق الإنسانية، فهل فعلاً ممارسة الفعل السياسي ضمن سياسة دولة مؤدلجة ومرسومة مسبقاً سيقود إلى حتمية لا أخلاقية؟ وهل الدولة العادلة تتأسس وتنتصر على الدولة الظالمة حسب تعبير ابن خلدون؟