فلسطين في المخيال الكُردي

2021.05.24 | 05:53 دمشق

ap_17265613617639.jpg
+A
حجم الخط
-A

رغم ما تمثله القضية الفلسطينية من علاقات دولية وإقليمية شائكة، وقيمة أخلاقية وإنسانية رفيعة، واقتناع شرائح كوردية واسعة من حيازتها للأهمية السياسية والدولية والإعلامية في الكثير من الأحيان، أكثر من القضية الكوردية في سوريا على سبيل المثال. إلا أن الأفضل وفي ظل الظروف الحالية التي يعيشها الكورد سياسياً وميدانياً، هو الاهتمام بالداخل الكوردي في علاقتهم مع السوريين وحلحلة المشاكل والنزاعات الداخلية الكردية البينية، أفضل من التركيز على المشاكل الخارجية التي لا علاقة للكورد بها. خاصة وأن خطاب الكراهية يتوسع بوتيرة متوالية بين الكورد أنفسهم، وبين شرائح مختلفة من السوريين والكورد سواء على المستوى الشعبي، أو بسبب الطروحات السياسية الكوردية المختلفة، أو الواقع الميداني والعسكري والاقتصادي الذي تعيشه المنطقة الكوردية، أو الموقف من المطالب الكوردية؛ فقضية فلسطين تمثل رمزية حساسة بالنسبة للشعوب العربية، وهيّ هشّة في مخططات وأهداف الأنظمة العربية. وكنتيجة للتجاور الكوردي مع المحيط العربي، فإن المساهمة المتبادلة في رفع درجة الحساسيات بين الطرفين، لن تستجلب سوى المزيد من المتاعب.

ما حصل خلال الأيام السابقة من قصف على قطاع غزة، استوجب التعاطف أو على الأقل عدم إبداء موقف

وضمن السياق نفسه، فإن الكتّابة عن فلسطين ومأساتها، يحمل مزدوجين مختلفين، بالنسبة لنّا نحن المدّعين متابعتنا لمجريات الأمور، وتجسيدها عبر حقلي المعرفة والصحافة. فهو فعلٌ مُربك من حيث مخرجات حالة اليأس المرافقة للكُردي من ابتعاد الدول العربية عن قضيته، وتسبب أنظمة عربية بمجازر ومظلومية كوردية. ما يخلق ردة فعل كردية، جذّرها نفسي وسياسي، ملتقطين أيَّ حدث أو مقولة لبناء موقف سياسي عليه. ومندفعين من سردية تاريخية غير موثقة حول مقولة للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات إبان قصف دكتاتور العراق السابق صدام حسين مدينة حلبجة بسلاح الكيماوي "وهل ترغبون أن يرشكم بالورود". متناسين الحقيقة التاريخية حول الدور الأساس والرئيسي للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في إنقاذ الرئيس مسعود البارزاني من محاولة اغتيال في النمسا عام 1979، بتكليف من صدام حسين نفسه.

ما حصل خلال الأيام السابقة من قصف على قطاع غزة، استوجب التعاطف أو على الأقل عدم إبداء موقف، أفضل من استحضار تلك السرديات. فالوقوف ضد دفع المدنيين الضريبة، هو أخلاقي أولاً. وقبل أيّ توافق أو موقفٍ سياسي، فإن اللوحة بمفهومها البسيط: ثمة أبرياءٌ مدنيون يُقصفون ويموتون جراء القصف.

لا فرصة أبداً أمام العرب، نُخباً سياسية أو ثقافية أو حزبية، التهرب من تحمل نتائج لامبالاتها بالمظلومية الكُردية، لكن حالة الإسقاط البادية على شاكلة ردة الفعل، وتصويبها باتجاه فلسطين هي مشكلة، كون الشعب الفلسطيني نفسه لم يتلقى الدعم والمؤازرة الحقيقية والواجب وجودها منذ عقود. فحق العودة أصبح حلماً ربما لن يتحقق، وصفقة القرن تكللت بقضم أغلب ما تبقى من فلسطين، واصطفت الأنظمة العربية على الدور للحصول عل تأشيرة التطبيع مع إسرائيل. أمام هذا الموقف للأنظمة العربية من قضيتهم المركزية، ماذا يتأمل الكورد من جوارهم؟

على العكس من تلك التوجهات غير الرسمية لبعض الشرائح الكوردية، فإن الحال شبه واحدٍ بين الشعبين الفلسطيني والكوردي في سوريا، وتطول قائمة المشتركات ما بين ابتلائها بأطرافٍ سياسية تتاجر بهم، أو هدرِ دماءٍ شكلت بحيراتٍ دون الحصول على تأشيرة سياسية واحدة، ليجد نفسيهما معاً يتيمين محرومين من الاهتمام السياسي العالمي والعربي. وتقول القضايا العادلة للشعوب عن نفسها، إنها امتحانٌ نهائي لتقييم القيم والمبادئ والأخلاق التي لا تتجزأ، فالمواقف من القضايا المتشابهة لا يمكن لها التجزئة لدى المثقف، قبل السياسي. لكن عقدًا من الزمن، مع ثورة السوشيال ميديا، وصعوبة إخفاء المواقف، أوضحت أن شرائح شعبية ونُخبوية عربية، هي الأخرى تتشارك وتتشابه مع مثيلاتها من الكُردية في النفاق والخداع وتعدد الأوجه من القضايا المتشابهة. فالمناصر للقضية الفلسطينية لا يجوز أن يقف بالضد من المطلب السياسي الكوردي في سوريا، والأخطر هو شمول رؤاهم ومواقفهم السياسية من الكورد جميعهم من منظار حزبي أو حركة واحدة.

السوريون المتضامنون مع فلسطين، والمعارضون للحقوق الكوردية سياسياً. والكورد المطالبون بحق تقرير المصير للشعب الكوردي، ومعارضو التضامن مع المدنيين والهمّ والحق الفلسطيني، ولو بحده الأدنى، إنسانياً وأخلاقياً، هؤلاء هم منبع النفاق والكذب والرياء، وليس من سببٍ لهذه المواقف المتذبذبة والمتضاربة في عمقها، سوى حالة الإفلاس الثقافي والسياسي، والسعي صوب خلق جيش من المقتنعين بهم، دون الإجابة على سؤال لماذا هذا الفعل والتعاكس في المواقف من القضايا المتشابهة؟

الحياة الطبيعية تفرض وتشرعن الاختلاف الشعبي حيال قضية تتعلق بصلب وجوهر ومستقبل ذلك الشعب نفسه، فمن الطبيعي أن يكون الانقسام صوب القضايا الخارجية أمراً مشرعناً. لكن المشكلة تتعدى هذه الميزة الاعتيادية، إذ إن اللوم والتهم وشيطنة المتضامن أصبحت ميزة واضحة. قبل أيام نشر أحد الأصدقاء، ومثله كاتب الأسطر، منشوراً على صفحاتهم الفيسبوكية حول دور الراحل ياسر عرفات في إنقاذ حياة السيد مسعود البارزاني من الاغتيال. سيل التهم واللوم والتشكيك التي نالت المنشورين، ومن ضمنهم نُخب ومثقفون كورد، أجج مشهد نار الشقاق والابتعاد عن وحدة الموقف حيال القضايا المتشابهة لدّى مخيلتي. خاصة، سبق وأن تضامنت بعض النخب السورية العربية مع الكورد في عفرين وقطع المياه من محطة علوك في رأس العين وتضرر مئات الآلاف من السوريين في الحسكة من كورد وعرب وأشوريين وسريان من هذا الفعل، فإن كمية الشعارات والمبررات السطحية، وتضامن بعض "النخب والمثقفين" السوريين العرب مع ذلك الفعل، وشرعنة التجاوزات الضخمة ضد الكورد في عفرين، أعاد إذكاء الانقسام الشعبي مُجدداً، وكأن أعدادًا ضخمة تنتظر حدثًا أو فعلاً؛ لتبادر إلى تدشين السوشيال ميديا بالانقسام وإذكاء ناره.

المتضامن السوري العربي مع القضية الكوردية في سوريا مُستهجن ومشكوك بإخلاصه وعروبته. والكوردي المتعاطف مع الفلسطينيين منبوذ ومُتهم

يُحار المرء في أمر السوريين المنقسمين حول أنفسهم وضد بعضهم البعض، لقضايا خارج السياج السوري. فالمتضامن السوري العربي مع القضية الكوردية في سوريا مُستهجن ومشكوك بإخلاصه وعروبته. والكوردي المتعاطف مع الفلسطينيين منبوذ ومُتهم، وكلمة حق كوردية في سبيل السوريين العرب وما لحق بهم من حيف وغبن، فهذا حديثٌ أخر، حيث كتّلة ضخمة من التهم والعمالة وربما في معرض حدّية الحديث، يصل الحال بهم إلى الإقصاء من دائرة حملهم للهويّة والقومية الكوردية. وفي خلفية المواضيع ثمة قضايا أخرى تماماً، حيث العلاقات السياسية والاقتصادية قائمة على قدمٍ وساق بين الداخل السوري ودول الجوار، وبين دائرة القرار لدى الطرفين الكوردي والعربي وتلك الدول. وتتناسى تلك الشريحة الكوردية أن قيادات ومسؤولين من الكورد السوريين وغير السوريين كانوا على علاقات صلبة وقوية مع القوى الفلسطينية. ويتناسى المستهجنون للحق الكوردي في سوريا، واتهامهم لهم بإسرائيل الثانية، أن أنظمة عربية تبحث عن دور لها للانضمام إلى نادي المطبعين مع إسرائيل.

وما بين هذا وذاك، تتعرض القضية السورية كوحدة حالٍ، للضياع. وتتبوأ قضايا الصراع والخلاف والشحن والتناطح صدارة المشهد، وينبري مثقفون ونُخب وكتّاب لرفع وتيرة الحقد والكراهية. أمام ذلك، فإن وحدة المصير والمستقبل التي تجمع السوريين كورداً وعرباً، ولامبالاة الدول ذات الشأن والفاعلة في الملف السوري، تتقاطع وتتشابه مع القضية الفلسطينية التي شبعت من الوعود منذ عقود كثيرة خلت.