فلسطين بين القيمة الأخلاقية والمصلحة السياسية

2021.05.25 | 06:02 دمشق

القدس.. اعتقال أكثر من 50 فلسطينيًا في مواجهات مع إسرائيليين
+A
حجم الخط
-A

دخل اتفاق وقف إطلاق النار بين فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة وإسرائيل حيز التنفيذ يوم الجمعة الماضي في الساعة الثالثة فجراً، ليطل في اليوم التالي إسماعيل هنية في خطاب النصر الذي أعلنت عنه حماس. لم يتوقع السوريون، والمقصود هنا الثائرون على نظام الأسد من حركة حماس أي تغيير في موقف كانت قد ثبتته سابقاً في علاقتها مع إيران، والذي توجته بالترحم على قاسم سليماني "شهيد القدس" كما سماه "محور المقاومة والممانعة" والتعزية به، بل وتوزيع صوره في شوارع غزة، تلك الصورة التي مزقها أهل غزة نفسهم. قاسم سليماني هذا رجل الإبادات والمجازر الجماعية في سوريا وقبلها في العراق.

لم يتوانَ إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس عن شكر إيران جزيل الشكر لما قدمته للمقاومة في حربها الأخيرة مع إسرائيل. أشعل ذلك غضباً في صفوف الكثيرين من أبناء المنطقة العربية عموماً لأسباب منها إيديولوجية ومنها سياسية ومنها أخلاقية. الأكثر غضباً طبعا كان الشارع السوري، الذي ما يزال حتى اللحظة التي شكر فيها قادة حماس إيران يعاني تحت عمليات التهجير التي تسبب ويتسبب بها الإيرانيون بدعمهم الأسد ديكتاتوراً جاثماً على صدر سوريا، وآخرها تهجير أهالي أم باطنة من ريف القنيطرة أثناء شكر هنية لإيران في خطاب نصره.

تمر المنطقة العربية عموماً في مرحلة انتقال وتغيير يجعل من كل شاردة وواردة محطاً للجدل والاختلاف والنقاش، فكيف الأمر إذا تعلق بقضية مركزية مثل فلسطين، قضية ناضلت لها مختلف شعوب المنطقة وكويت بالنار بحجتها من قبل طغاتها، وتمت المتاجرة بها تحت عناوين المقاومة من جهة، والتطبيع من جهة أخرى. هل يحق فعلاً للسوريين الغضب من حماس للموقف الذي اتخذته من إيران، بل وطورته ليكون موقفاً شاكراً ممتناً لمجرم الحرب بشار الأسد على لسان قائد الحركة في لبنان أسامة حمدان؟ هل يحق لهم أن يحرموا الفلسطينيين من فرصة الدفاع عن النفس والتزود بما يسمح لهم بمقاومة الاحتلال ونظام الفصل العنصري؟

 

قبل الإجابة عن ذلك السؤال لا بد من التقاط بعض الصور منذ انطلاق الحراك في القدس المحتلة وحتى تاريخ كتابة هذا المادة.

الصورة الأولى تقول إن الإنسان هو المحرك الأساس للقضية الفلسطينية، وليس الشعارات القومية ولا المقدسات، على ما لها من أهمية، فلقد تم طوال العقدين الماضيين اقتحام ساحة الأقصى أكثر من مرة، ولكن لم تنتفض فلسطين بأكملها كما أدى إلى ذلك قرار المحكمة الإسرائيلية بإجلاء عائلات من بيوتها في حي الشيخ جراح. قرار التهجير هذا هيج جرحاً غائراً في نفسية الفلسطينيين، فكلهم دون استثناء، هؤلاء الذين في قطاع غزة أو الضفة أو داخل الخط الأخضر أو في الشتات، كلهم تعرضوا لمرارة التهجير، أو يعرفون أحد من أقربائهم قد تعرض لها. التهجير بات له أيضاً معنى أكثر تأثيراً لدى كثير من السوريين والعراقيين، واليمنيين، والمصريين، وغيرهم. جاء منظر العائلات في الشيخ جراح وهي تخاطب المستوطنين السالبين لمنازلهم عنواناً عريضاً لتجديد القضية الفلسطينية، سواء لدى الفلسطينيين، أو للشعوب التي تعرضت للتهجير بعد انطلاق ثورات الربيع العربي.

ثورات الربيع العربي نفسها لاقت دفعاً جديداً ونبضاً حياً أكثر من أظهره صور الشابات والشبان الذين ابتسموا للكاميرات وهم بين أيدي قوى الاحتلال. بطريقة ما كانت تلك الابتسامة علامة جامعة لشباب الثورات العربية وشباب باقي الدول التي تفاعلت مع تلك الثورات، وكأن تلك الابتسامة أعادت شرعية الربيع العربي ثانية، وجعلت من الحراك السلمي في فلسطين جزءاً من تلك الثورات، أكثر ما يربطها بها أنها جاءت شعبية شبابية بعيدة عن الفصائل والانقسامات السياسية.

ملمح آخر يدل على اصطفاف الشعوب العربية في جهة، والقوى المهيمنة عليها من جهة أخرى، فرغم أن الخطاب الرسمي للقوى الفلسطينية كان إلى جانب نظام الأسد وحلفائه، سواء تلك التي في السلطة متمثلة بفتح أو الجبهة الشعبية، أو تلك التي تغازل إيران مثل حركة حماس والجهاد. اصطف المقدسيون إلى جانب الثورة السورية، وذلك ليس من خلال علم الثورة التي تم رفعه أكثر من مرة في الحراك المقدسي، لأن رفع العلم قد يكون تصرفاً فردياً يعبر عن مجموعة ما، وليس عن جماعة غالبة. الإشارة الأهم كانت في تبني هتافات وأغاني الثورة السورية، فلا تكاد تخلو مظاهرة مقدسية من الشعارات التي تم ترديدها في الثورة السورية.

على المقلب الآخر في الشتات كان هناك حضور واضح للسوريين حيث وجودهم للتظاهر من أجل فلسطين، وأيضاً ليس رفع علم الثورة في معظم المظاهرات التي خرجت في العواصم الغربية وتركيا حيث الوجود الكثيف للسوريين هو الإشارة، ولكن دعوات التظاهر والتجمع التي ملأت صفحات السوريين، وفي أكثر من تقرير إخباري فرنسي أو ألماني ركزوا فيه على أن معظم المتظاهرين من الدول العربية وخاصة من سوريا وفلسطين.

نجح الحراك الأخير وبشكل رئيسي عبر توفر المنصات غير الرسمية للنشر- المتمثلة بوسائل التواصل الاجتماعي رغم محاربتها للمحتوى الموضح للقضية الفلسطينية- في إعادة الاعتبار العالمي للقضية الفلسطينية، ورغم أن حماس حاولت أن تظهر أن الفضل في عالمية الحدث يعود للمقاومة المسلحة من غزة، ولكن الحادث كان قد بات عالمياً قبل إطلاق أول صاروخ من غزة، والسبب الرئيسي هو تمدد الحراك على أرض فلسطين كاملة، مما سهل صنع محتوى يحاكي قضية شعب، وعادت فلسطين قضية وليست صراعاً فلسطينياً إسرائيلياً. طبعاً الحرب زادت من الزخم الإعلامي، ولكن حدثت مثل تلك الحرب حربان، الأخيرة في 2014، وأدت إلى ضحايا أكثر عدداً، واستمرت مدة أطول، لكنها لم تلق هذا الإجماع العالمي على القضية الفلسطينية.

حققت حماس عبر تلك المواجهة إنجازات لا يمكن غض البصر عنها. جعلت أولا من القبة الحديدية التي طالما روج الإسرائيليون لها مثاراً للسخرية والتندر، واستطاعت أن تطرح مفهوماً جديداً في توازن الرعب من خلال امتداد رقعة الأهداف على امتداد فلسطين، مما سيجعل اتخاذ قرار في حرب صغيرة أخرى بالنسبة للإسرائيليين، سواء على مستوى الحكومة أو المستوطنين، أمراً ليس من السهولة بمكان. ستؤدي تلك الحرب إلى مشكلات داخلية في إسرائيل تضاف إلى تلك التي تعاني منها بسبب رغبة نتنياهو بأن يكون رئيساً أبدياً شبيهاً بالزعماء العرب، وهذا الأخير سيكون الأكثر تضرراً من تلك الحرب. هل حققت حماس نصراً؟ يعود ذلك لما ستؤول إليه الأمور مستقبلاً، إن النصر يمكن الاستدلال عليه من التغيرات السياسية التي من الممكن لها أن تحصل، ولصالح من. حتى الآن ما زالت الاقتحامات للأقصى مستمرة، وحي الشيخ جراح محاصرا، وتراجع الحراك السلمي متأثراً بالهدنة. لا يمكن حتى اليوم القول بنصر لحماس، ولكن من المؤكد أنها لم تنهزم. يزيد الـأمر صعوبة أن الواجهة السياسية المتمثلة بالسلطة غير قادرة على استثمار النصر، لأنها سلطة تنسيق أمني، ولذلك كان سقف حركة فتح الدعوة للتظاهر، لأن أي تحرك لها مهما كان بسيطاً يسقط شرعيتها كسلطة تنسيق أمني، وفتح خارج السلطة -وهذا ما أثبتته الأحداث الأخيرة- لم تعد شيئاً، وعلى عكس ما يرى كثيرون، فالسلطة ليست مرهونة بفتح، لأن السلطة الفلسطينية مؤسسة تشكلت بقرار دولي، وبالتالي تجديدها يمكن أن يكون بقرار دولي، إلا أن فتح ووجود فتح بات مرهوناً بالسلطة.

نأتي الآن لحماس، وشكرها لإيران، ومن ثم لبشار الأسد. هل كان هذا أمر لا بد منه؟ هل يحق لحماس البحث عن أسباب قوتها بغض النظر عن التداعيات التي تتسبب بها تلك القوة أو تتاثر بها على الأقل؟

إذا عدنا لبداية الثورة نجد أن حماس كانت قد انحازت للثورة تماماً، بعد الثورة بفترة وجيزة تخرج قيادات حماس من سوريا، يخطب في الشهر الثاني من عام 2012 إسماعيل هنية في الجامع الأزهر مناصراً للثورة السورية ومرددا شعار "على سوريا رايحين… شهداء بالملايين" ويظهر في الذكرى 25 لتأسيس الحركة في غزة في الشهر الأخير من العام نفسه إسماعيل هنية وخالد مشعل رافعين علم الثورة السورية. لم تتوقف مناصرة حماس للثورة على الجانب الإعلامي، بل أسهمت بتمويل فصائل عسكرية ضد النظام وعلى رأسها أحرار الشام، نشط أعضاء لحماس في مؤسسات الثورة العسكرية، والإغاثية، والإعلامية وغيرها.

بدأت نهاية كل ذلك مع الانقلاب العسكري الذي قام به عبد الفتاح السيسي ضد محمد مرسي منهياً حكم الإخوان والحياة السياسية عامة في مصر. انكشف ظهر حماس مرة أخرى، ولم تجد ممولاً عربياً لها، التمويل العربي مثل تمويل قطر وغيرها كان مشروطاً بشكل كبير بإعادة الإعمار. تطوير المهارات العسكرية وتقديم المال الحر لم يكن إلا من إيران. على ضوء ذلك تشكل في حماس معسكران، معسكر ضد تطبيع العلاقات مع إيران مرة أخرى ومن رواده خالد مشعل، ومحور يطالب بعودة العلاقات وعلى رأسه محمود الزهار وإسماعيل هنية. كانت حماس بين خيارين، أن تعيد العلاقات مع إيران، وهذا أمر لن يتم بسرية، لأن إيران لا تريده سرياً، فما تستفيده إيران من هذا الدعم، علانية رعايتها للمقاومة ضد إسرائيل، أو أن ترفض عودة العلاقات وتختار جانب الشعوب، وخاصة شعب سوريا واليمن والعراق، وبالتالي انقطاع دعم أساسي، ما يؤدي إلى إضعاف الحركة وتراجعها.

كان القرار صعباً، ولا أحد ينكر صعوبته. القرار في حقيقته كان بين انحياز حماس للقيمة الأخلاقية لوجودها كحركة مقاومة ضد الظلم والاستلاب والقمع، وبين مصلحة سياسية ترفع من قيمة أسهمها وقدرتها على استمرار الصراع. أسقطت حماس الخيار الأخلاقي لصالح الخيار السياسي، ولأنها حركة مقاومة لمحتل، لا يستوي أن تستمر دون قيمة أخلاقية، لذلك بدأت توجد لنفسها أعذاراً من خلال تجزئة القضية إلى قضايا، في وقت كان ترفض فيه تجزئة القضية في أماكن أخرى. يقول خالد مشعل في تبريره لشكر إيران إنه لا يثني على قتلها للسوريين والعراقيين، ولكن يشكرها على ما فعلته من أجل حماس. إذاً تحولت دماء السوريين والعراقيين واليمنيين في نظر حماس لأمر لا يمكن الثناء عليه لا أكثر. يقول في تبريره أيضاً إن لحماس قضيتها، ولا يلوم الآخرين في معاداتهم لإيران لأن قضيتهم تفرض ذلك، وفجأة تلك القضية الواحدة والمركزية التي هاجمت من خلالها حماس الدول التي قامت بالتطبيع منذ بضعة أشهر لم تعد قضية واحدة. في تسجيل آخر له يقول مشعل إن حماس تدعو الجميع لخوض معركتهم الواحدة بعيداً عن الاستقطاب الديني والطائفي، وكأن الثورة السورية ليست سوى صراع طائفي. كلما حاولت حماس تجميل موقفها اللاأخلاقي بقيم أخلاقية زادت في الغرق في وحل الإسفاف.

يمكن أن يتم حساب شكر أسامة حمدان لبشار الأسد كرد فعل على هجوم السوريين وغير السوريين على حماس بعد شكر إيران، ولكن إن كان كذلك أم لا، فليس الأمر بالسبب الذي جاء لأجله الشكر، بل الشكر نفسه. حماس حولت قضية فلسطين لصراع بين إسرائيل وقطاع غزة، تاجرت عبره بالقضية الفلسطينية ككل الزعامات العربية التي حرصت على القيادة، فلم تأبه حماس لما حصل بالسوريين وبالفلسطينيين الذين قتلهم تجويع النظام وقصفه لهم في "فلسطين الثانية"/ مخيم اليرموك، ولكن أعاد الفلسطينيون والسوريون وغيرهم للقضية الفلسطينية اسمها عبر الحراك السلمي في العالم الذي لم يتوقف حتى اليوم. حماس اختارت السياسة على الأخلاق، فتحولت من حركة مقاومة في فلسطين إلى فصيل فلسطيني خاضع لأجندات خارجية، حتى لو ادعوا غير ذلك.

كلمات مفتاحية