فساد مواجهة الفساد

2020.04.21 | 00:12 دمشق

5d7b87ae42360438935aff94.jpg
+A
حجم الخط
-A

في مثل أيامنا الربيعية من شهر نيسان سنة 1979 وجدت جثة في مستنقع قرب باريس تعود لوزير العمل الفرنسي روبير بولان. وقد بيّن التحقيق حينذاك بأن سبب الموت هو الانتحار، وانتحار الوزير كان يعود إلى اتهامات صحفية له بالاستفادة من منصبه للحصول على قروض بشروط محابية من مصرف محلي.

بعد سنوات قليلة من هذا الحدث، وفي سني دراستي الجامعية الأولى في حلب، أسعفني القدر بأن ألحق بالركب الأخير نسبياً من الأساتذة الجديين والمرموقين علمياً ومناقبياً، كمحمد الناشد وتيسير الرداوي وإسماعيل سفر وسواهم، رحم الله من توفاه وأمد الله في عمر من تبقّاه، فمن تلاهم من الأساتذة، ومنهم زملاء لي في مقاعد الدراسة، إن كانوا جيدين، فقد شكلوا الطفرة، وفيما عدا ذلك، فأغلبهم من "دكاترة" الاتفاقيات الثنائية مع بعض الدول "الصديقة" فيما كان يعرف بدفعات الرفيق "وهيب طنوس"، حينما كان "وزير التعتيم" في مجلس وزراء الظل في القيادة القطرية للحزب الحاكم.

أراد أحد هؤلاء الأساتذة استحضار حادثة انتحار الوزير الفرنسي، ليستعين بها في المقارنة مع مسؤول سوري عالي المستوى حينذاك، حصل على نسبة مئوية من قيمة صفقة تركيب "معمل للورق لا يعمل" في دير الزور. وقد تنبّه إلى هذه المقاربة بعض المناضلين الأشاوس من أعضاء الجهاز الأمني المسمى "الاتحاد الوطني لطلبة سوريا" وقاموا بما تمليه عليهم ثقافتهم "الوطنية" وخضوعهم الرخيص، وكتبوا تقريراً يليق بالحدث العظيم بحق هذا المعلم الجريء. وقد أدت هذه الدسيسة الوطنية بعد فترة وجيزة إلى ترك المعني أرض "الوطن". وإن كانت النميمة هي السبب الحقيقي لمغادرته أم إنه فعلها لسبب آخر، فقد جاء ذلك حتما في صالحه ولكن بالتأكيد ليس من صالح الوطن.

في إسبانيا المكلومة اليوم بأعلى نسب الضحايا من الفيروس اللعين، تفجرت منذ أشهر قضية فساد ملكية، بحيث تم اتهام الملك السابق خوان كارلوس، والد الملك الحالي، بالحصول على عمولة كبيرة جراء تدخله لدى قادة السعودية ودفعهم لشراء قطار يصل مكة بالمدينة ومن صنع إسباني. وبمعزل عن قيمة الصفقة الخرافية وقيمة العمولة الكبيرة، فالملك قد تحوّل في هذه العملية إلى وسيط تجاري طموح فتح لبلاده سوقاً "معطاء". وقبل الحكم في الموضوع، أو حتى إحالته إلى القضاء أو تشكيل لجنة تحقيق، أعلن ابنه الملك الحالي فيليب، تخليه عن ميراثه من أبيه، ووقف دفع راتبه التقاعدي، مع الإعلان الصريح بعدم علاقته بأي من أشغاله السابقة. في المقابل، صوت غالبية البرلمان على حصانة الملك السابق وعدم وجوب ملاحقته عدا اليساريين الراديكاليين في "بوديموس".

في المقابل، تنازعت الرأي العام الإسباني وجهتا نظر، حيث تدعو الأولى لوجوب محاسبة الفاسدين وحتى لو كانوا ملوكا، خصوصا أن ماضيه حمل بعض القصص المثيرة للجدال من نوع مرافقة رجل أعمال من أصل سوري في رحلات صيد غير مشروعة في أدغال أفريقيا، كما صداقته مع بعض رموز الاستبداد الشرقي في العالم العربي. أما وجهة النظر المقابلة، فهي تفترض، وإن سلّمنا بفساد الملك السابق أو استفادته غير المشروعة من موقعه الوظيفي، إلا أنه يجب عدم إغفال دوره الأساسي في إرساء النظام الديمقراطي في إسبانيا بعد موت الديكتاتور فرانسيسكو فرانكو سنة 1975. ويستفيض أصحاب وجهة النظر هذه في وصف الدور الإيجابي الذي قام به ووقوفه في وجه الانقلاب الارتدادي سنة 1981 مما أدى إلى فشله واستمرار التجربة الديمقراطية التي ترافقت مع تعزيز الوجود الأوروبي الذي انعكس نمواً وازدهاراً اقتصاديين على البلاد.

ملك إسباني سابق متهم بالفساد حمى المشروع الديمقراطي لبلاده مما منحه ظروفاً تخفيفية قضائياً ولكنه بالمقابل لطّخ صفحات التاريخ التي ستحكي عن تجربته بالسواد، يقرأ اليوم، في تقاعده تقارير مفصّلة ومخجلة عن فضائح فساد مصّاصي دماء الشعب السوري الذي كان هو يوماً صديقاً لديكتاتوره. لا تستوقفه صفقات رجال السلطة التي تأسس فسادها وإفسادها منذ وصولها إلى سدة الحكم، فهذا أصبح أشهر من نار على علم، وكتبت فيه المجلدات، إلا أنه يفتح عينيه وفاهُ مذهولاً بمستوى ووضاعة الفساد الذي تخرج فضائحه يوماً بعد الآخر إلى العلن، والذي اقترفته/ وتقترفه شخصيات صادرت ثورة حرية وكرامة وعدالة في سوريا لتصنع منها مزرعة فساد لها ولزبانيتها وإفساد لمجتمع الثورة، وقامت من أجل هذا باغتصاب حرية من اعتقد بقيادتها وذلّ كرامة من تبع لها وإجهاض عدالة من آمن بها.

ما من شك بأن في كل حركة تحرر أو تحرير فاسديها، إلا من رحم ربي، ولكن المستوى الذي وصل إليه بعض مغتصبي الشرعية الثورية في سوريا لا يوازيه سوى فساد السلطة التي يدّعون أنهم ثاروا ضده.

استاذي الجامعي في مغتربه اليوم سيكون قادراً على ربط ما سبق في حبكة سردية ممتعة تجمع وزيراً استفاد فانتحر، وملكاً متقاعدا أهدى شعبه الحرية واستفاد مالياً، وطغاة حرموا شعوبهم الحرية وسرقوها، و"ثوار" قتلوا أحلام هذه الشعوب وأمعنوا في الأرض فساداً ولم يصنعوا خيراً أبدا.

كلمات مفتاحية