فزاعاتُ الخراب السوري

2022.02.02 | 05:09 دمشق

438.jpg
+A
حجم الخط
-A

إنّ من يتابع ما يجري في الداخل السوري اليوم يجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما أن يشاهد ويسمع ويعاين، فيكون في الغالب شاهداً على رداءة الأداء السياسي، وسقطات ممثلي "النخب" السورية، والتكتلات من جماعات المصالح، بما يحدثه ذلك من أثر في النفس يتراوح بين السخرية والضيق والازدراء، فيختار المقاطعة والانزواء السلبي أو حتّى ادعاء الحياد، وإما أن يتحرك بإيجابية لكشف الحقائق وتبديد الأوهام والأساطير المؤسسة لتلك النخب الكرتونية، فيضطر لخوض مواجهات ليست سهلة، بالنظر إلى نفوذ تلك القوى، وبطش أجهزتها، وأذرعها الممتدة في مختلف مناحي الحياة.

وليس آخر أدوات البطش المبتكَرة، بالتأكيد، صدور قانون مكافحة الجريمة الإلكترونية، للعمل على خنق الصوت السوري، الذي بات مشتتاً نتيجة الحناجر التي تهتف، والأيدي التي تصفق على مسرح صناعة الطاغية. وحقيقة هذه الأصوات الأعلى صراخاً والأكثر شراسة من فئة ما يعرفون بـ "فزاعات الخراب"، تحاول الالتفاف على الهموم الحقيقية للوطن بالانشغال في هموم أخرى خارجية، تكفل لهم البريق الإعلامي من دون أن تكلفهم التنازل عن امتيازاتهم المحلية غالباً. ولا شك أهم الأفكار المنحرفة التي تصنع الطغاة، المنفصمة عن الواقع بطبيعة الحال، يصنعها منظروه ومن ثم يستخدمونها لتبرير هذا الطغيان.

يدرك المستبد في قرارة نفسه جيداً أن الديمقراطية الحقيقية، وكما أشار إليها الفيلسوف كارل بوبر، ليست حكم الشعب، بل إنها القدرة على محاكمة الحكومات

وكثيرة هي تجاوزات تلك النخب من قبيل: "خروج قيادي بعثي ينتمي لفئة مطبّلِي النظام السوري ليدلي بتصريحه حول كون سوريا في مرحلة استثمار ما وصلت إليه من "انتصارات عظيمة"، في الوقت الذي تُسجل فيه سبع حالات بيع كلى في محافظة دمشق، بسبب تردّي الوضع المعيشي الذي وصلت إليه البلاد.. خروج لونا الشبل لتؤكد، وعبر قناة روسيا اليوم، "أنّ الشعب السوري لن يموت جوعاً ولا برداً، وأنّ الحكومة استطاعت كسر الحصار المفروض على سوريا، وتأمين المتطلبات الأساسية للمواطن". سبقه تصريح أكثر استفزازاً عبر قناة الإخبارية السورية، أكدت فيه أنّ على السوريين الصمود، وأنّ مهمة قوات النظام انتهت وبشار الأسد لا يملك عصا سحرية، في وقتٍ تبجح فيه وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية في حكومة النظام السوري بأن الاقتصاد يشهد تحسناً كبيراً، وأنّ البلاد ستكون محطاً لأنظار المستثمرين في المستقبل القريب، متماشياً مع التصريحات التي أدلت بها بثينة شعبان، في وقت سابق، مؤكدة أنّ الوضع الاقتصادي في البلاد أفضل بخمسين مرة عما كان عليه عام 2011... إلخ".

وفي إطار السجال المعيشي المحتدم الدائر بين "النخب الكرتونية" والعوام، يدرك المستبد في قرارة نفسه جيداً أن الديمقراطية الحقيقية، وكما أشار إليها الفيلسوف كارل بوبر، ليست حكم الشعب، بل إنها القدرة على محاكمة الحكومات، والمقدرة على منع قيام طاغية باسم الشعب، أو الأغلبية مهما كانت. لذا لم يكن غريباً أن تسير الأمور في سوريا على نحو مغاير لما كان متوقعاً له بعد استقلالها، بسبب حالة التصلب في الرأي، والانسياق الكارثي وراء جوقة تسعى لمواصلة مسيرة "التصحيح" التي تُعدّ فخر الصناعة السورية: "صناعة الطاغية". هذا يقودنا في اتجاه موازٍ للحديث عن مخرجات هذا "الفزاعات" في حقل الخراب السوري، ولا أقصد بالطبع الحديث عن وفاة ثلاثة أطفال سوريين يعيشون في المخيمات، إثر تعرضهم للبرد القارس، كما أكدت منظمة "كير" الإنسانية، في حين يتعرض مئات الآلاف من الأشخاص لخطر كبير، في أعقاب عواصف شتوية شديدة تضرب سوريا والدول المجاورة.

ولا أقصد تلك الطفلة الصغيرة التي ترتجف في إحدى مخيمات الشمال السوري بينما تنتظر حصتها من الملابس، لتهزّ رعشاتها ضمير العالم. ولا تلك المرأة التي راحت تصرخ وسط الثلوج رافضة دخول خيمتها لأن الوضع في الداخل والخارج سيّان، أو تلك الجدة التي أحرقت يديها بينما تشعل الحطب لأحفادها كي يتدفؤوا.. لا أقصد كلّ هذا، رغم عظم هذه الأحداث، إنما أودّ الإشارة، بشكلٍ خاص، إلى تلك الشابة الجامعية التي ماتت في عقر دار نظام الأسد. الفتاة تدعى "بتول صقر" وافتها المنية بإصابتها بسكته قلبية نتيجة "البرد" في إحدى قرى اللاذقية.

وعليه نستطيع الجزم أن هذه النخب لم تسهم فقط في اعتبار مطالب السوريين مجرد غوغاء تمارس الصراخ المجاني في الشارع، بل ساهمت في حرق صورة "معبودها" حتى بعيون حاضنته الأكثر تطرفاً. وبدفاعها عن مصالحها الآنية والضيقة تعالت فوق أوجاع هذه الحاضنة، وغربتهم، واستلابهم، وفقرهم، وخوفهم، لتتركهم لمصائرهم المجهولة بعد كلّ ما قدموه من تضحيات في سبيل بقاء "السيّد".

وليس من باب العجب أن تعمّق تلك النخب الطفيلية معاني الصدع والشقاق في جسد الوطن السوري. تروّج للطاغية وتتماهى مع أفكاره الشمولية وقراراته السلطوية. تصمت عن تعسفه وعنفه، وهي تتمنى ألا يصيبها بعض من رذاذه، في تواطئها أو خضوعها. هكذا يغدو نجوم تلك النخب أصابع الطاغية وذراعه الباطشة، ويصبحون بمشيئتهم جزءاً من صناعة الاستبداد وعائلة الطغيان، يمارسون قدراً مشهوداً من الإرهاب الفكري والإعلامي، وعليه يجب أن يُنحى العقل السياسي ويُمنح إجازة مفتوحة، على أن تتولى الأجهزة الأمنية والمحاكم العسكرية مهمة إدارة الصراع، محروسة بقانون الطوارئ، وبالرصاص والمعتقلات.

وهل نستطيع أن ننسى كيف وصفت بثينة شعبان، مستشارة بشار الأسد آنذاك، الثورة السورية، بأنها "مشروع فتنة يهدف لقتل السوريين والتفريق بينهم"، قبل أن يستقر الحديث لاحقاً على "عصابات مسلحة" و"مجموعات إرهابية" و"ميليشيات تخريبية" في وقت لم يتحدّث فيه أحد عن حرب أو دين!.

معروف للجميع أنه في مختلف مواقع المسؤولية وصنع القرار، هناك دائماً مكان للنخب الزائفة التي تمثل القاعدة الصلبة التي يقف عليها المستبد. نخب ليست بحاجة إلى دعم شعبي على الإطلاق. تصل للحكم من خلال شبكة علاقات فاسدة بعيدة عن الشفافية والمحاسبة، تساوم على القيم الديمقراطية، وتزين للطاغية ومسوخه المستنسخة عنه سوء عملهم. وفي ظلّ ارتباك المشهد السوري اليوم فإن النخب الكسيحة الجاثمة على صدور السوريين، تتبادل الأدوار بشكل بهلواني عجيب، لاتخاذ كلّ ما هو غير صالح للحياة، من مراسيم وقرارات، يصل لحدّ التحريض الفاقع خلال التصريحات والخطابات. وحكماً ستجد تلك النخب من بطانة السوء، ومروجي الشائعات، والمتحالفين بالتواطؤ خلف الميكروفونات وأمام عدسات المصورين وفي الكواليس، غارقين في لعب دورة الجناة والضحايا على حدّ سواء.

راجت العدمية السورية لتدعم كلّ ما يصب في اتجاه قيام الطاغية، تحت شعارات ملونة لا تخلو من تحايل، وتغذي كلّ ما يحرض على الفرقة والانقسام والاستقطاب

بالتساوق مع ما سبق لا تخرج مواقف هذه النخب المشوهة عن تبرير دور المؤسسات الأمنية أو تسويغ عسكرة الدولة والمجتمع، والترحيب بقرارات وإجراءات تنتهك حقوق الإنسان، وعليه راجت العدمية السورية لتدعم كلّ ما يصب في اتجاه قيام الطاغية، تحت شعارات ملونة لا تخلو من تحايل، وتغذي كلّ ما يحرض على الفرقة والانقسام والاستقطاب، وأي أمر من شأنه أن يفتت الوحدة الوطنية، أو يؤدي بها إلى حافة الاحتراب الأهلي. وفي أحيان كثيرة، وبدهاء لا نظير له، اخترع هؤلاء نظريات المؤامرة، وتفننوا في تسميم الأجواء وصناعة أعداء وهميين، وسواء أكان ذلك نوعاً من الإلهاء والتخدير للمجتمع أو عن اقتناع حقيقي، فإن هذه الفزاعات لقيت رواجاً عند الموالين، أول ضحاياها، وتغذت عليها عقول وقلوب دأبت على الاستسهال وأدمنت اتباع هوى القطيع.