فردية المثقف السوري ومخالب السلطة المستبدة

2021.09.01 | 07:16 دمشق

236103800_3038734829782765_1469940642596319532_n.jpeg
+A
حجم الخط
-A

ثمّة سؤال بديهي يجب طرحه بدايةً: هل تحوّلتْ مناطقُ سيطرةِ النظام بكلّيتها، إلى عالمٍ سفلي موبوء باصطفافاتٍ مافياوية، انحشرت اليوم في لباسِ مفاهيم جديدة قائمة على العنفِ الصريح والمباشر، أو لنقل بشكلٍ أدقّ: العنف الاستعراضي المستفزّ لبواطن الخوف وسيناريوهات الكوابيس المظلمة، لتغدو تلك المافيات أشبه بدكاكين مشروعة يتنافس أصحابها على استقطاب الزبائن البؤساء؟ هي المتمرسة أساساً في فنّ التنبؤ بالألاعيب الملائمة لتعزيز هالةِ النظام المقدّس وترسيخِ وهم قوته الأسطورية.

وواحدٌ من أهم واجباتها على الإطلاق كتمُ أيّ صوتٍ فرديّ يخرج متلمساً طريقه الخاصّ عبر قطيعٍ بشريّ وقع ضحيةَ الهوّةِ الواسعة بين الأحلام والطموحات وما بين النتائج الواقعية في مجتمعٍ تديره شلّة ظلامية لا تتوانى عن إثارةِ القلاقل إذا ما عمّ الهدوء، بقصدِ إيصالِ رسالةٍ مفادها: "انتبهوا نحن ما زلنا هنا". ولعلّ أدلَّ مثالٍ على هذه الجريمةُ التي شغلت السوريين مؤخراً، والتي بالطبع ستمرُّ مرورَ الكرام في مملكةِ "الصمت والقهر" وسط غيابِ المساءلةِ الجادّة طالما الساحة خالية إلاّ من أتباع السلطة. وفي التفاصيل قُتل الطبيب السوري "كنان علي"، أشهر أطباء القلبية في مدينة اللاذقية، المعروف بسمعته الطيبة وأعماله الإنسانية، كذلك معالجة المرضى الفقراء مجاناً. إذ توفي متأثراً بجروحٍ بالغةٍ إثر انفجارِ عبوةٍ ناسفة تمّ وضعها داخلَ علبة جهاز طبي رُكنتْ أمام باب عيادته.

مما لا شكّ فيه أنّ سلطةَ هذا الطبيب أزعجت جهةً ما يسوءها وجود أشخاصٍ يشيعون الإيجابية في بلادٍ تحولت إلى ما يشبه غابة، انعدمت فيها كلّ الروادع الأخلاقية والمحظورات المجتمعية

بطبيعة الحال يدرك النظامُ السوري جيداً أنّ سلطةَ المثقف أكثر الكراسي خطورة وقوّة، وسلطةُ الطبيب المذكور آنفا متجسّدةٌ في فرادته وإنسانيته، وهو أمر غير مقبول في ظلّ الأنظمةِ الشمولية التي تحرص على نشرِ السلبيةِ والسوداوية، كما تعمل على كسر شوكة "المثقّف الفرد" إما بالعنف المباشر، أو غسيل الدماغ، أو ترويضه عبر المناصب والإغراءات المادية. هناك بالطبع وسائل أخرى لا تقلّ قسوةً، أهمها إشعال فتيل حربٍ نفسية على المدى الطويل بغيةِ تشويه السمعة، كما حصل مع بعض المعتقلين السياسيين وناشطِيْ المجتمع المدني الذين كانوا يُساقون إلى البرنامج سيئ السمعة (في خدمة الشعب) للإدلاء بالاعتراف الشهير (ندمان يا سيدي والله ندمان). ومما لا شكّ فيه أنّ سلطةَ هذا الطبيب أزعجت جهةً ما يسوءها وجود أشخاصٍ يشيعون الإيجابية في بلادٍ تحولت إلى ما يشبه غابة، انعدمت فيها كلّ الروادع الأخلاقية والمحظورات المجتمعية، وتبلّدت ضمائرُ الناس لتطفو على السطح شتّى صنوفِ الظواهر الشاذة والساديّة.

من المعروف أنه في كلّ بلدان العالم يوجدُ خلافٌ تاريخي و"صحيّ"، حول الهموم المجتمعية عند معظم المعنيين بالشأن العام بين المثقفين والسياسيين، وعلى الرغم من الاختلافات الظاهرة في الأهدافِ والتوجهات، فإنّ العناصرَ الأساسية في هذه الوحدة هي التي تصوغ رؤى ووجدان المجتمع، وتطرح القضايا الداخلية بكثيرٍ من الصدق والجرأة، بما يجعل التباينات بين هذه المستويات قليلة الأهمية، أو شكلانية لا تطول الجوهر والأساس المحرك، وعلى أساسها ينتظم الوعي الشعبي، مما يعني عدم وجود فوارق جوهرية لدى أولئك المعنيين مختلفة عما ينطق به البشر العاديون في الحياة اليومية، إلاّ في سوريا فبدلاً من أن تكونَ السياسةُ والثقافةُ رافعتين للحسّ الشعبي، فقد اندرجتا ومنذ عقودٍ خمسة في حالةٍ مريبةٍ من الانحطاط والتردي، لعدم وجود خطّ عام مشتركٍ ناظم للرؤى والأفكار في السلطات والمعارضات والمجتمعات والحيزات الثقافية، وبالتأكيد ضعف هذه العلاقة ليس إشكالية حزبٍ حاكمٍ بعينه، أو أيديولوجية معينة، ولا إشكالية سلطة مستبدة وحسب، بل هي إشكالية مجتمعٍ بأكمله قائمة على نبذِ فردية المثقف، وشيوع ظاهرة العنف كاستراتيجيةٍ ناظمة للعلاقات الاجتماعية والسياسية على حدّ سواء.

لا شك بأنّ تصفيةَ الطبيب "كنان علي"، على سبيل الذكر لا الحصر، هي الصورة الأوضح لنمو حالةٍ "كتلية" أو "جماعية" أو "بطرياركية" بارتكازات غرائزية انفعالية تجاه كلّ "فرد فريد" في المجتمع السوري يكدّر هدوء السلطة. فالعلاقةُ المريضة بين منظومةِ الاستبداد وبين طبقة المثقفين نجدها صريحة في النزعة المباشرة للعنف: عبر زجّهم في السجون، وممارسة الاقتلاع السياسي، أو حجب المشروعية الوجودية عن الآخر المختلف انطلاقاً من تحقير حقّه في حياةٍ حرّةٍ كريمة. وبالطبع هي ثقافة شائعة وممتدحة في مجتمعٍ مسحوقٍ أساساً أجهزتْ عليه حربٌ أهليةٌ طويلة، بينما تصول وتجول فيه مافياتٌ تتكثّف مصالحها المشتركة، مشكلة وحدة عنفٍ متماسكة، لا تعترف بكينونةِ المواطن وأولويته واستقلاليته. وفي سوريا تغيبُ قيمةُ الفرد ويضمر مفهوم الإنسان، فالديكتاتوريات جميعها تمحو الفوارق بين الأفراد لصالح ما يسمى مكراً أو جهلاً "المساواة"، التي لا تعني في الحقيقة إلاّ "التسطيح" و"التسوية" أيّ إذابة الفروق، وصهر الإرادات في سلوكٍ جمعي قطيعي واحد. لتتشكلَ كتلٌ من المسوخِ البشرية هائمةٌ تنحو في لحظةٍ ما باتجاهٍ واحد مبرمج. في وقتٍ لا يُنظر فيه إلى "الفرد الإيجابي" سوى بصفته رقماً صعباً في قطيعٍ كبير، للعمل على اغتيالِ استقلاليته وإحساسه بالكرامة الإنسانية، وقدرته على الخلقِ والإبداع.

على هذا حين يدخل المثقفُ منطقةَ السياسي، بدءاً من هذه اللحظة يصبح في دائرة الخطر، فتأخذ علاقته بالسلطة منحى إشكالياً، لتتم عمليات التخطيط لتقويض سلطته بطريقة ما. وليس هناك من تطيّر في الرؤى واعتبار تقديس الفرد أيديولوجية بديلة للأيديولوجيات الشمولية، بصفتها المفتاح الأنجع لحلّ كثير من المشكلات المتراكمة والمزمنة. فالفردية الثقافية رؤيةٌ جريئة تقوّضَ الشائع الذي سلّطه المستبد سيفاً على رقاب رعيته، من خلال تقديراتٍ ذاتية أو رؤى مصلحية ضيّقة، وهي أيضاً فضاءٌ مفتوح يناقش بموضوعيةٍ القيمَ المجتمعية المعلبة، ويعملُ على تعويضِ الشعور بالنقص سواء في حقل الثقافة والأخلاق أو العلوم والتكنولوجيا. يتمّ ذلك بالعودة إلى البدايات أو البديهيات التي لا يمكن خوضها بعقلٍ مبرمج أو مغيّب، إنما بعقلٍ ينطلق من الصفر في مقاربة المفاهيم والأشياء، وضرورة القيام بعمليةٍ تطهيريةٍ أو استئصالية للمخاوف الوجودية، ولكوابيس الرعب الكامنة في عقلِ كلّ سوري يتعامل بشكلٍ غريزي وطفولي مع الواقع المأساوي الراهن، ليبقى منفعلاً في الحدثِ اليومي غير فاعلٍ فيه.

النظام السوري يسعى جاهداً إلى إنكارِ سلطة "الفرد المثقف" لتبقى الهويّةُ الجمعيةُ ساكنةً وقطعية، لا تتغير ولا تتطور،

وفي بلاد منكوبةٍ كسوريا تتحقّق الفرديّةُ أو الذاتية كضرورةٍ استشفائية، وليس بصفتها مقدّسة أو شيطانية، عندما يتجه السوريّ الذي خلخلته الهزائم الشخصية والعامة، نحو محاولةِ تفهم وإزالة عقده الداخلية المكتسبة، وتحرير مكبوتاته بما تتضمنه من عجزٍ نفسي متراكم، كذلك كلّ الارتكاسات التي تعكس فقراً داخلياً مزرياً، وهذا ما لا يريده النظام السوري الذي يسعى جاهداً إلى إنكارِ سلطة "الفرد المثقف" لتبقى الهويّةُ الجمعيةُ ساكنةً وقطعية، لا تتغير ولا تتطور، بغية إنتاجِ صفواتٍ تتلاءم مع خرابٍ عام يشهدُ صعوداً غير مسبوق لأمراء الحربِ وتجّارِ الأزمات ومافيات التشليح والتشبيح، إضافة إلى الشلل الظلامية القابعة كذئابٍ ضارية في دكاكينِ الموت، كلّ هذا على حسابِ المثقفين والمفكرين والناشطين، بغية تضخيم كلّ ما هو قطيعي بغضّ النظرِ عن القشرةِ الأيديولوجية أو شكلِ وعاء العنفِ الحاضن. فالعلاقةُ ما بين الذات الفردية والمجتمع هي علاقة تكاملٍ وتضافرٍ وتآثر، فكما نحن بحاجةٍ لإطلاقِ فرديتنا من إسارها وعمقها الداخلي، بحاجة أيضاً لتعميق إحساسنا بجماعيةِ الحياة وبالتالي إنسانيتها.