فرحاً بشفاء الرئيس

2020.02.25 | 23:00 دمشق

2a3dc0b3-1eea-4191-966f-53d06780d9c0_16x9_1200x676.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان يوماً مشمساً، وكان دور مهجعنا في الحلاقة الشهرية، وهو يومٌ مشهودٌ، عبارة عن حفلة تعذيبٍ، تستمر ساعتين متواليتين، على أقل تقدير.

بالطبع لا أحتاج للتأكيد، على أن هاتين الساعتين، لا تنحصران في مئة وعشرين دقيقة، كسائر الساعات، إنهما وفق نسبية "أينشتاين" ربما تمتدان، لبضعة آلافٍ من الدقائق البطيئة والقاتلة.

حيث يتم إخراج المهجع كاملاً إلى الساحة، وهناك نصطف بوضعية الجاثي على الركب، والجسد منتصبٌ والرأس منحنٍ، بحيث تلامس الذقن أعلى الصدر.

ويقوم الجلادون بالتعذيب العشوائي، بينما يقوم الحلاقون بالحلاقة، بآلات حلاقةٍ يدويةٍ، يحلقون لكل سجين، ما نبت من شعره الذي لا يتجاوز طوله السنتيمترين، وكلما انتهى أحدنا من حلاقته، التي تدمي فروة الرأس، لكثرة ما يقوم الحلاقون بجذبها بقوةٍ، وهي ممسكةٌ ببقايا شعرٍ لم تتم حلاقته بعد، وكل ذلك عن إهمال مقصود، باستخدام آلات حلاقةٍ بالية، تجرح وتنتف من شعر الرأس أكثر مما تحلق.

ولم نكن نعدُّ هذا شيئاً يذكر، قياساً لهول التعذيب المستمر، الذي يصبه الجلادون على رؤوسنا، لمحض المتعة والتسلية، فيبتكرون صنوفاً من العبث المؤلم بأجسادنا، كأن يقوم أحدهم بالضغط الشديد، بإبهامه على الشفة السفلى للسجين، وهي مقحمة فوق أسنانه، وكامل قبضته تمسك الذقن من الأسفل كي لا تتراجع، فتصبح الشفة بين سنداني الإصبع من الأعلى والأسنان من الأسفل، وكثيراً ما تنتهي العملية بنزف شديد في الشفة.

وربما عمد بعض الجلادين، إلى الاجتماع على معتقلٍ نحيفٍ منا، (ومعظمنا كان النحول، شديد الفتك ببدنه) فكانوا يمسكونه من أطرافه الأربعة، ويقذفون به للأعلى، ليسقط على وجهه، وكانوا يسمون هذا الشكل من التعذيب، البراشوت أو المظلة، وحين يتعبون من هذه اللعبة، يأمرون رئيس مهجعنا، أن يحضر أربعة منا، ليمارسوا نفس التعذيب على سجينٍ، عبس بوجهه الحظ في تلك الساعة.

في ذلك اليوم، الذي يعد يوماً لا يُنسى من أيام تدمر، في أواخر شهر شباط من عام "1984" كان ثلثا المهجع يجثون على ركبهم، بانتظار دورهم في الحلاقة، في الساحة السادسة، وقد انتهى الثلث من حلاقتهم، وعادوا إلى المهجع.

وفجأة علت أصواتٌ مبهمةٌ من المحارس، التي تجثم على أركان السجن وزواياه، وسرت حركةٌ عنيفةٌ وسريعةٌ، وبصخب غير مفهوم، تلتها قعقعة للسلاح والبنادق، وتم تذخير الأسلحة، ثم بدأ صوت الرصاص فوق رؤوسنا، وتطايرت فوارغ المقذوفات فوقنا، وأصابنا هلعٌ، تقف بلاغة اللغة ومفرداتها، عاجزةً عن وصفه، فقد أيقن الجميع أنها المجزرة الثانية، وها هي تنفذ الآن دون سابق إنذار.

كنت بين الجاثين على ركبهم في الساحة، وأيقنت أنهم يقتلون الآن من هم بداخل المهاجع، وسيكملون مجزرتهم بنا بعد أن ينتهوا منهم.

لاحقاً سنعرف من أصدقائنا في داخل المهجع، أنهم أيقنوا أيضاً أنَّ القتل والمجزرة، بدأت بمن هم في الخارج، وسرعان ما سيلحقونهم بنا فور انتهائهم منا.

وكان الموت والهلع يغشيان النفوس، وبشكل تلقائي انحنت الرؤوس باتجاه الصدور، وبدأت الألسن والجوارح تلهج بالقرآن والدعاء، استقبالا لموت لا مفر منه.

لم نكن نعي ما يجري حولنا، سوى صوت الموت، محمولاً على أزيز الرصاص، وفوهات

مضت دقائق عدة، إلى أن تبين من بعض العبارات، التي ترشقها أفواههم، أنهم كسائر القطعات العسكرية في الجيش السوري، يبتهجون فرحاً بإعلان شفاء الرئيس من مرضه

البنادق التي لم تتوقف، تخالطها صيحاتٌ لعناصر سرية التأديب، مبهمةٌ لا يفهم منها أي شيء.

لا يمكن التكهن على وجه الدقة، كم مضى من الوقت ونحن في هذا الهول العاصف، وكنا أشبه بأحياء يقفون على بوابة الموت، فلا الموت يقبضنا ولا الحياة تبقينا.

توقف الرصاص رويداً رويداً، فما إن تفرغ بندقيةٌ من رصاصها، حتى يتوقف صاحبها عن إعادة تذخيرها، إلى أن توقفت جميعها لكن أصوات الفرح الهيستيري، المنبعث من الجلادين لم يتوقف!

مضت دقائق عدة، إلى أن تبين من بعض العبارات، التي ترشقها أفواههم، أنهم كسائر القطعات العسكرية في الجيش السوري، يبتهجون فرحاً بإعلان شفاء الرئيس من مرضه.

وأن الأمر صدر من وزارة الدفاع، من العماد مصطفى طلاس شخصياً، أن تفرِغ جميع البنادق والأسلحة الفردية، في جميع قطعات الجيش العربي السوري، رصاصها دفعةً واحدةً، ابتهاجاً بشفاء القائد الرمز، الذي كاد شقيقه "رفعت الأسد" أن يستولي على السلطة والحكم، خلال مرضه، لولا وقوف زمرة من الضباط، الموالين لحافظ الأسد في وجهه، وفي مقدمتهم العماد مصطفى طلاس، الذي كان وسيكون له دورٌ كبيرُ، في تثبيت حكم آل الأسد.

كنا ما نزال جالسين على أرض الساحة، ورؤوسنا بين ركبنا، وأيدينا فوق الرؤوس، حين انتهى هذا الهرَج المريع، فأمروا بنا أن ندخل إلى المهجع، دون أن تتم حلاقتنا، وانصرفوا لتوّهم، بعد ساعة شاهدنا عناصر البلدية، وهم يَجمعون الفوارغ النحاسية، للطلقات التي تم إطلاقها في هذا الفرح العظيم، لم يهدأ السجن للحظة واحدة بعدها، فقد كانت الموسيقا الحماسية، والأغاني التي تمجّد القائد الرمز وتحكي مآثره، تصدح حتى ساعاتٍ متأخرةٍ من الليل.

 بقينا ليومين كاملين ساهمين صامتين، لا ينبس أحدنا ببنت شفةٍ إلّا ما ندَر، وقد خيّم علينا ذهولٌ غريب، ما أتفه هذه الحياة، وكيف يمكن أن تنتهي في طرفة عين، حزناً أو غضباً أو فرحاً بشفاء رئيس.

لقد كانت مجزرة تدمر الأولى، غضباً وانتقاماً لمحاولة اغتيال الرئيس، فهل سيكون قتلنا، ومجزرتنا ابتهاجاً بشفائه يوماً ما.