"فتح" نرجسية الماضي أمام مرآة الواقع

2019.03.22 | 23:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

شكل الربيع العربي امتحانًا حقيقيًا لمصداقية الحركة الوطنية الفلسطينية بوصفها أبرز من تبنّى شعارات التحرر والكرامة وحق تقرير المصير على مدى نصف قرن من الزمن أو يزيد، وسرعان ما كشفت الانتفاضات العربية المطالبة بإنهاء الاستبداد، مدى هشاشة ارتباط معظم الفصائل الفلسطينية بالمبادئ التي منحتها الشرعية والاستمرار ولعل المؤشر الأكثر وضوحًا على مثل ذلك التوصيف جاء من "حركة فتح" العاجزة حتى اللحظة عن بناء موقف أو رؤية تتسق وجوهرها كحركة تحررية أولًا ومن ثم تستجيب لحجم التغيرات الكبرى في المنطقة.

الفشل على صعيد الخارطة السياسية الفلسطينية في بلورة خطاب يعلن بوضوح دعم تطلعات الشعوب لا تتحمله حركة فتح وحدها إذ أن بقية الفصائل سواء المنضوية تحت قيادة منظمة التحرير أو من بقي خارجها لم تكن بحال أفضل، ومع ذلك تبقى المواقف التي أخذتها الأولى ومازالت تتخذها الأكثر مثارًا للاستغراب نتيجة قيادتها منذ العام 1965 للكفاح الفلسطيني ضد الاحتلال الاسرائيلي والأنظمة العربية من أجل الحفاظ على استقلالية القرار انطلاقًا من بعد سياسي يرتكز على أن تلك النظم لا يعنيها بأي حال حقوق الشعب الفلسطيني.

السؤال البسيط لماذا اختارت حركة فتح التخلي عن مكانها الطبيعي كحليف للمطالبين بالحرية والمشاركة في صناعة مستقبل بلادهم لم يعد يتعلق فقط بوصفها مازالت تُعرف نفسها كحركة تحرر وطني بل بات على "سذاجته" يعبر عن انهيار أخلاقي غير مسبوق خاصةً في حال الأخذ بعين الاعتبار تبرير قيادة الحركة ومجمل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية لما حصل في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين داخل سوريا كخطوة متقدمة لسياسة دفن الرؤوس بالرمال وإنكار الحقائق، ومن جهةً أخرى يؤشر لأزمة بنيوية قديمة في العقل السياسي الناظم للتحركات الفلسطينية ولا يتسع المقال لنقاشها.

انهيار أخلاقي غير مسبوق خاصةً في حال الأخذ بعين الاعتبار تبرير قيادة الحركة ومجمل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية لما حصل في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين داخل سوريا كخطوة متقدمة لسياسة دفن الرؤوس بالرمال وإنكار الحقائق

كثيرة هي التصريحات التي تؤكد مدى تصدع وتهتك السياج القيمي للحركة الوطنية الفلسطينية وعلى رأسها فتح، بدءًا برئيس الحركة محمود عباس مرورًا بأعضاء لجنتها المركزية عباس زكي/ عزام الأحمد وغيرهم وصولًا لأعضاء تنفيذية منظمة التحرير أحمد مجدلاني -مثالًا- الذين اجتروا لسنوات عبارات الوقوف إلى جانب سوريا في وجه الإرهاب ودعم صمود "الجمهورية العتيدة" في إبداعها لمشاهد حية ومبتكرة من الإجرام لم يكن أحد يتوقع أن البشرية قد تعايشها من جديد، دون أن يتذكر هؤلاء ولو لمرة إعلان الحداد على أرواح أبناء شعبهم الذين سحقتهم طائرات وبراميل وحصار دولة الصمود والتصدي "الشقيقة"، طبعًا دون إغفال أن موقف دعاة الممانعة في غزة ليس أكثر أخلاقية.

للمفارقة يستدعي هذا العبث على الساحة الفلسطينية سؤلًا آخر عن شعار الحياد الذي رفعته كل الفصائل عقب اندلاع الثورة السورية، أين هو وماذا تبقى منه؟ رغم عدم واقعيته وافتقاده لأي بعد أخلاقي أمام ما ارتُكب بحق السوريين والفلسطينيين من مذابح، هل يفرض الحياد أن تتبنى حركة فتح "انتصار" النظام السوري وحليفته طهران في مخيم اليرموك وتنظم المهرجانات على جماجم أبنائه ليعتلي قادتها منصات نفاقهم فوق ركام المخيم وما تحته من أشلاء وأحلام وطنية؟، أيتطلب الحياد المزعوم أن يحمل الرئيس الفلسطيني -وفق ما صرح به مؤخرًا أحد الناطقين باسم فتح لوسائل الإعلام- مشروع إعادة النظام السوري إلى "الحضن العربي" واضعًا تحت نعليه كرامة شعب مازال الكثيرون على اتساع هذا الكوكب ينحنون احترامًا لعدالة قضيته؟.

"كم كذبنا حين قلنا نحن استثناء" على مرارتها تحمل العبارة ملامح الحقيقة الذميمة فتتكسر نمطية الوهم وتصبح مسألة تفنيد دوافع وأسباب هذا الانحدار المريع مجرد ممر ضيق يفضي إلى مسرح الوضاعة بشخوصه الحية وهي تواصل إنتاج أحطّ المشاهد على منصة الواقع المعاش، فكيف يمكن فهم أن يقف ممثلي حركة فتح في سوريا جنبًا إلى جنب مع أولئك الذين شرّعوا ثقافة تقبيل الأحذية وطرقوا كل الوسائل لتزوير الرواية وتجريد الضحايا من حقهم في المساواة أمام الموت أو البكاء على الأقل، وتماديًا في الانحطاط يمنحونهم أوسمةً باسم فلسطين، أي فلسطين هذه التي تصنع من عظام ودماء المقهورين قرابين امتنان للقتلة؟.

"كم كذبنا حين قلنا نحن استثناء" على مرارتها تحمل العبارة ملامح الحقيقة الذميمة فتتكسر نمطية الوهم وتصبح مسألة تفنيد دوافع وأسباب هذا الانحدار المريع مجرد ممر ضيق يفضي إلى مسرح الوضاعة بشخوصه الحية وهي تواصل إنتاج أحطّ المشاهد على منصة الواقع المعاش

ألغام الأسئلة لا تنتهي وكل إجابة أو محاولة للبحث والتفكير كفيلة بإحداث انفجار يترك ما يكفي من آثار القيء وشظايا البذاءة على ضمائر ووجدان الناجين من معادلات الواقعية السياسية أثناء سعيهم لفهم سياق البراغماتية وهي تسوغ لمقولات المشروع الوطني الفلسطيني التي صاغها أمثال ادوارد سعيد/ محمود درويش/ ناجي العلي/ غسان كنفاني/ عز الدين القلق وغيرهم كثر أن تهوي إلى مستنقع من الوجوه والشخصيات المأجورة والمستخدمة من أفرع الأمن والاستخبارات بهدف تعميم ثقافة "الاستمناء الفكري" كمضاد وحيد لآمال التغيير وإرادة إنهاء النظم القائمة حتى اللحظة، في تعبير وقح عن حاجة "العالم المتمدن" لدماء البسطاء من أجل ديمومة صناعة أنخاب التفوق والسيطرة.

القضايا الوطنية لا تموت والذاكرة لا تغتالها أوهام اللحظة المبنية على قراءات قديمة مستهلكة وهو ما تثبته عقود على النكبة الفلسطينية، بذات المنطق فإن السوريين وأبناء المخيمات في سوريا لن يفقدوا ذاكرتهم ولن ينفع قيادة فتح التكرار في كل مناسبة بأن الحركة صاحبة الطلقة الأولى والشهيد الأول والأسير الأول، ولن يفيدها التمترس خلف تاريخ من الكفاح والصمود دفاعًا عن أحقية الشعب الفلسطيني في امتلاك قراره ومصيره لأنها ببساطة تُطلق الرصاص على كل هذه الحقائق، بالتالي إن كان هناك بقية من عقلاء بالمعنى السياسي لا بد من التفكير في الإجابة على أسئلة غاية في السذاجة من قبيل كيف يمكن أن يساند السوريين تطلعات "فتح الوطنية" أمام كل ما منحتهم من خذلان؟ ما هو مستقبل هذه الحركة في حال سقط النظام السوري ونظم أخرى تترنح أمام انتفاضات شعوبها؟ وكيف لها بعد الآن أن تقنع مجتمع اللاجئين بأنها ضامن حقوقهم؟.

كيف يمكن أن يساند السوريين تطلعات "فتح الوطنية" أمام كل ما منحتهم من خذلان؟ ما هو مستقبل هذه الحركة في حال سقط النظام السوري ونظم أخرى تترنح أمام انتفاضات شعوبها؟

ضرورة أن تعيد فتح قراءة الواقع كمدخل للذهاب باتجاه رؤية وطنية جديدة لا يتعلق فقط بمجريات الربيع العربي بل يرتبط أيضًا بالتدهور المتواصل على الصعيد الداخلي الفلسطيني بعيدًا عن مقاربات أن ما اتُخذ من مواقف كان لحماية اللاجئين الفلسطينيين وتجنب أثمان باهظة كما حصل في تجارب سابقة لأنها تعبر عن نفاق سياسي وأخلاقي لن يقود سوى لمزيد من الانهيارات، وعلى فتح وسواها من الفصائل إدراك أن فلسطين ليست استثناءً وسط موجات التغيير في المنطقة ومن هنا لا مناص من التسليم بأن عجلة الزمن لن تعود إلى الوراء -بغض النظر عن طبيعة المستقبل ومخرجاته- وهو ما يترك فتح أمام خيارين إما إعادة الاعتبار لنفسها كحركة تحرر وطني أو التلاشي إلى متاحف التاريخ السياسي وتحمل مسؤولية كل ما يمكن أن يؤول إليه الوضع الفلسطيني من فوضى ونكبات.