فتاة سورية تخترق مخابرات الأسد..

2022.04.30 | 04:28 دمشق

5842.jpg
+A
حجم الخط
-A

استطاعت "آنا" الفتاة السورية التي أطلقت على نفسها اسماً افتراضياً على الفيس بوك وادّعت أنها من مؤيدي النظام، استطاعت اختراق مخابرات الأسد والوصول إلى الكثير من المعلومات والحقائق والاعترافات الموثقة بالصور والفيديوهات عن انتهاكات كبيرة وجرائم وحشية ارتكبها أتباع الأسد ضد السوريين الذين شاركوا في رفع صوتهم عند انطلاق الثورة السورية..

ليس الفيديو الذي انتشر بالأمس وتناقلته معظم وسائل الإعلام، وعلى رأسها صحيفة "الغارديان"، والذي يتضمن وقائع الإعدامات الميدانية في حي التضامن بدمشق، والتي تم ارتكابها على يدي عنصر الأمن "أمجد يوسف"، التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية، أو ما يطلق عليه بالأرقام الفرع ٢٢٧ وزميله "نجيب الحلبي" اللذين قاما بإعدام ٢٨٠ شخصاً في يوم واحد من أيام عام ٢٠١٢، وتعد تلك واحدة من المجازر التي لا تحصى من مجازر الأسد، ليس هذا الفيديو سوى واحد من عشرات الفيديوهات التي حصلت عليها "آنا" والتي باتت تصلح أرشيفاً موثقاً موازياً للأرشيف الشعبي الميداني الذي وثقه ناشطون بأدوات بدائية دون أن يهتموا بالجانب الاحترافي، حيث لم تترك كثافة الجرائم وقتاً ولا مبرراً للتفكير في صناعة شكل احترافي ولم يكن السوريون يعتقدون أن توثيق الجريمة يتطلب كل ذلك، كما أنهم لم يكونوا محترفين ولا خبراء قانونيين، بل مجرد ناشطين اعتقدوا أن المجتمع الدولي يقف بالمرصاد لكل القتلة ولا يمكن أن يتسامح معهم..

وقد عمل النظام على مدار سنوات طوال، بل ومنذ اللحظة الأولى التي انطلقت فيها الثورة على التشكيك بمحتوى كل الفيديوهات والصور والأخبار والتقارير التي توثق لجرائمه، بل وإنكارها وتحميلها لجهات أخرى أو إرجاعها إلى ممارسات فردية في أحسن الأحوال..

ومع تعقد المشهد، وكم التشويش الذي مورس على القضية السورية، وتواطؤ المجتمع الدولي وخذلانه للسوريين، وأيضاً مع الجرائم الكثيرة التي تم ارتكابها من قبل فصائل تحسب نفسها على الثورة السورية، بالإضافة إلى ضخ المليارات من قبل النظام وداعميه لخلط الأوراق والتشويش على حقيقة ما يحدث، راح المجتمع الدولي يتلكأ ويجعل من تفاصيل قانون جرائم الحرب حائلاً أمام اعتماد المشاهد المروعة التي تنقلها فيديوهات الناشطين السوريين كدلائل وقرائن على الجريمة المنظمة وجرائم الاعتقال والاغتصاب والقتل تحت التعذيب والإبادة الجماعية والتهجير والتغيير الديموغرافي..

تنكرت "آنا" بزي مؤيدة واستدرجت الكثير من القتلة للاعتراف صراحة بجرائمهم التي ارتكبوها وقد نجحت في جرّهم إلى ذلك الاعتراف دون أن يداخلهم شيء من تعذيب الضمير أو الندم

هنا، كان على السوريين المضطلعين بقانون الجريمة الدولية أن يغيروا شكل التعامل ويحاولوا العثور على قرائن لا تقبل التشكيك والاحتمالات، وأن يعيدوا توثيق ما تم ارتكابه فعلاً ولم يعتمد رسمياً في القانون الدولي، بطريقة لا يستطيع النظام الدولي أن يتنصل من مسؤوليته تجاهها..

تنكرت "آنا" بزي مؤيدة واستدرجت الكثير من القتلة للاعتراف صراحة بجرائمهم التي ارتكبوها وقد نجحت في جرّهم إلى ذلك الاعتراف دون أن يداخلهم شيء من تعذيب الضمير أو الندم، بل ظهروا بالصوت والصورة متفاخرين متباهين بتلك الجرائم.

غير أن طريقة الاستجابة للفيديو الأخير الذي كتبت عنه صحيفة الغارديان يثير تساؤلاً جوهرياً ويضعنا أمام ملاحظة تبدو إجرائية وشكلية ولكنها هامة للغاية ولا يمكن تجاهلها، وتتعلق بإغفال الإشارة إلى أصحاب الجهد الأساسيين ومفجري الموضوع، وعلى رأسهم الباحثة السورية أنصار شحود، وزميليها: السوري مهند أبو الحسن، والهولندي البروفيسور "أور أوميت أونغر"، فالصحف التي نشرت -بما فيها الغارديان- لم تكن سوى وسيلة، أما الجهد الحقيقي الذي استطاع الوصول إلى المجرمين واستدراجهم وسحب اعترافاتهم، فكان لهؤلاء الثلاثة، وكان نتيجة عمل دؤوب استمر لسنوات، ولكن نجومية صحيفة الغارديان تغري المتابعين بالتركيز عليها دون غيرها والتعامل معها على أنها صاحبة الفضل في الكشف عن ذلك الفيديو ونسيان أنها كانت وسيلة النشر لا صاحبة البحث..

درست "أنصار شحود" قانون الجريمة الدولية وتخصصت به أكاديمياً لسنوات طويلة واعتمدت منهج بحث أكاديمي علمي ودقيق تحت إشراف البروفيسور الهولندي "أور أوميت أونغر" المتخصص في دراسات الهولوكوست والمجازر الجماعية وبمساهمة فاعلة من الباحث السوري مهند أبو الحسن لإعادة صياغة الحقائق التي يعرفها السوريون جيداً، ويعرفها أيضاً المجتمع الدولي برمته ولكنه لم يكن يعتمدها بذريعة نقص الاحترافية والافتقار إلى القرائن القانونية الصرفة.

هل كانت صور وفيديوهات الاعتقالات والقتل العلني غير مقنعة؟ هل كانت آلاف الصور وفيديوهات التعذيب غير مقنعة؟ هل كانت صور الطائرات التي تلقي البراميل المتفجرة أقل شأنا من محتوى هذا الفيديو؟

إن افترضنا ذلك كله فالمجتمع الدولي الآن لا يستطيع أن يداور أو يشكك في صحة الفيديو الجديد، فماذا هو فاعل؟ هل ستكون هذه الدلائل الاحترافية والقانونية الجديدة مجرد زوبعة تستمر لعدة أيام ثم تنام وتنضم إلى أخواتها من الأدلة التي وضعت في الأدراج؟ هل سيكتفي المجتمع الدولي ببعض التصريحات ثم يغلق الملف كما أغلق مئات الملفات التي سبقته؟ أم ثمة إجراء فعلي قد يتم اتخاذه؟

استطاع الباحثون إثبات مدى هشاشة مخابرات الأسد وغبائهم وغباء عناصر الأمن الذين اعتمدوا الوحشية والبطش لا المهنية، واستندوا إلى القوى الداعمة سياسياً وعسكرياً ثم ظنوا أنهم انتصروا باعتبارهم الأذكى والأقوى

لا ضمانة للمجتمع الدولي الذي غالباً ما تقتصر ردة فعله على إدانة أدوات الجريمة لا المجرم الحقيقي، إدانة من نفذ فقط، وتناسي من أعطى الأوامر ومن أعطى حرية القتل لأولئك المرتكبين، هذا إن فعل، ثم نعود مرة أخرى إلى الدائرة العبثية القديمة ذاتها، إلى العقاب الذي تم اعتماده ضد الأسد أثناء استخدامه الكيماوي في الغوطة، والذي اكتفى بإدانة السلاح ومصادرته -إن كان فعلاً قد صادره- وتبرئة مستخدمه؟

في كل الأحوال، استطاع الباحثون إثبات مدى هشاشة مخابرات الأسد وغبائهم وغباء عناصر الأمن الذين اعتمدوا الوحشية والبطش لا المهنية، واستندوا إلى القوى الداعمة سياسياً وعسكرياً ثم ظنوا أنهم انتصروا باعتبارهم الأذكى والأقوى.

كما كشف الباحثون عن مدى تخاذل المجتمع الدولي، فالفيديوهات التي لا يستطيع إنكارها اليوم، لا تختلف كثيراً عن الأدلة التي شكك فيها بالأمس، الأمر الذي يعطي مصداقية مطلقة لكل الفيديوهات الأخرى التي رفعها الناشطون على وسائل التواصل منذ بدؤوا بنشرها..

كان قانون قيصر هو آخر إجراء ضد نظام الأسد، ورغم مرور سنوات على اعتماد هذا القانون، والذي يقتصر على عقوبات اقتصادية، فإنه لم يحدث أثراً حقيقياً على النظام، ثم بدأ المجتمع الدولي بالتراخي وإيجاد المخارج للتخفيف من آثاره رغم قلتها وضعفها، واليوم نجدنا أمام امتحان جديد للنظام الدولي، امتحان يوقن معظم السوريين أن نتيجته لن تكون أكثر مما سبقه من امتحانات صعبة، فهل يفعلها العالم ويتحرك هذه المرة، أم يؤكد شكوك السوريين في خذلانه لهم وتواطئه وصمته عن أعتى قضايا الإجرام التي شهدها العصر الحديث؟