فاتحة المجازر في «مدرسة المدفعية»

2022.06.20 | 06:09 دمشق

mjzrt-alazbkyt.jpg
+A
حجم الخط
-A

عام 1969 كاد طالبان فقيران، يجلسان في المقعد الأخير في أحد صفوف ثانوية في الرقة، أن يهشما رأس مدرّس مادة القومية عندما قال إن كتّاب السيرة غالوا في تمجيد شخصية الرسول لغاية التقليل من شأن الأمة العربية. من حسن حظ المدرّس أن ذلك لم يحدث، لكن اليافعين سيختزنان الغضب لسنوات حتى يفجّرانه في مدرسة المدفعية بحلب مساء السبت 16 من حزيران 1979. لقد كانا إبراهيم اليوسف وعدنان عقلة.

يرجع أصل عائلة اليوسف إلى قرية تادف بريف حلب. وقد هاجرت إلى الرقة بسبب الجفاف وتدهور الزراعة. أما عائلة عدنان فتعود إلى الجولان. وكان والده شرطياً في الرقة نفسها التي ستعرّفه إلى مَن سيصبح شريكه في تنفيذ هذه العملية الشهيرة.

بعدما نال الشابان البكالوريا توجه عقلة لدراسة الهندسة المدنية بحلب. ولم تسمح الأحوال المادية لأسرة إبراهيم، المكوّنة من عشرة أولاد له بالالتحاق بالجامعة. فتطوّع في الكلية الحربية وتخرج برتبة ملازم، لكن حياته العملية في الجيش لم تكن سهلة. فمنذ سنوات خدمته الأولى بدأ شعوره بالتمييز الطائفي لصالح العلويين يتبلور. ورغم أنه انتسب إلى حزب البعث، ككل زملاء دورته، إلا أنه خضع لمحكمة حزبية في قطعته قرب دمشق بسبب الصلاة. وإثر ذلك تقرر نقله إلى حلب في ما رآه «عقوبة» بينما كان القدر يرسم مصير أيامه القادمة ومستقبل البلد برمته. وصل إلى مدرسة المدفعية بحيّ الراموسة على أطراف المدينة محتقناً بالشعور بالمظلومية، وأقام في حيٍّ فقير على طرفها الآخر. وبين هذا وذاك تجددت علاقته بالصديق القديم الذي كان قد وجد طريقه إلى جماعة الإخوان المسلمين، وتجاوزها سريعاً إلى كتلة جهادية كانت تتشكل فيها من تلاميذ الشيخ الحموي مروان حديد.

كان عقلة إسلامياً نمطياً، أما اليوسف فكان أقرب إلى التدين الشعبي والحمية التقليدية. فانتمى إلى هذه الجماعة السرية المقاتلة الصغيرة، دون المرور بتجربة إخوانية، في مطلع عام 1977 الذي سيحمل ترقيته إلى رتبة نقيب وإمكانية انفراده بإدارة شؤون المدرسة حين يكون الضابط المناوب فيها.

كان عقلة إسلامياً نمطياً، أما اليوسف فكان أقرب إلى التدين الشعبي والحمية التقليدية. فانتمى إلى هذه الجماعة السرية المقاتلة الصغيرة، دون المرور بتجربة إخوانية

في سياق مواز كانت العمليات التي يستطيع تنفيذها أفراد التنظيم، الذي سيُعرف بعد حادثة مدرسة المدفعية باسم «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين»، تتصاعد، وتزداد معها ردة فعل الأجهزة الأمنية للنظام شراسة تجاه الإسلاميين والوسط الديني. وقد أدى ذلك إلى ملاحقة الكثيرين. ومن هؤلاء كان حسني عابو، قائد «الطليعة..» في حلب، وعدنان عقلة، رجلها الثاني الذي كان يضغط على أميره باتجاه التصعيد حتى وافق أخيراً وشارك في تنفيذ العملية التي دبرها اليوسف بحق طلاب الضباط في مدرسة المدفعية، والذين كان بينهم 260 علوياً من أصل 320 في الصفين المتوسط والمتقدم، بحسب الجدول الذي أعدّه وأخرج على أساسه الطلاب غير العلويين قبل بدء المجزرة التي أودت بحياة أكثر من ثلاثين وجرحت ثمانين.

تكتمت سلطة حافظ الأسد، الذي كان في زيارة إلى العراق، على ما جرى لعدة أيام، لكن المشافهة كانت كفيلة بنقله. وفي مذكرات القائد الأبرز للطليعة في دمشق، أيمن شربجي، يقول: «بدأت الأخبار تنتشر، والأحاديث تزداد عن حصول عملية ضخمة في مدرسة المدفعية في حلب». لكن من قطع الشك باليقين كان القائد العام للتنظيم الجهادي وقتئذ، عبد الستار الزعيم، الذي قدم من حماة بعد أيام، «وأخبرنا بصحة الأنباء الواردة عن مدرسة المدفعية، كما أكد لنا أن الإخوة في قيادة حماة لم يكونوا على بينة من أمر العملية، وأنه شخصياً لم يكن يعلم بها، وأن قيادة التنظيم في حلب هي التي اجتهدت باتخاذ القرار». ليردف الزعيم: «نسأل الله أن يجعل العواقب إلى خير». مصرّاً على عدم تصعيد العمليات: «سنستمر في خطتنا القديمة وسنقوم بعمليات اغتيال، كما سنضرب عناصر المخابرات بين الفينة والأخرى على سبيل التأديب فقط، أما معركتنا فهي مع رؤوس النظام». معبّراً عن خشيته من الانجرار إلى «معركة مكشوفة، في مواجهة غير متكافئة». أما في مذكرات عدنان سعد الدين، المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا وقتئذ، فيقول إن هذه الحادثة كانت «عملاً كارثياً بالنسبة لتنظيم الإخوان المسلمين، لأنها كانت السبب في تعطيل برامج الجماعة وعرقلة مسيرتها الدعوية، فالجماعة قد وضعت لنفسها خطة.. نصت بوضوح تام على تجنب الصدام مع السلطة المتعطشة لدماء المواطنين، ولا سيما ذوي الاتجاهات الإسلامية منهم». مؤكداً أن جماعة الإخوان المسلمين سارعت إلى «الإعلان عن عدم علمها بحادثة المدفعية وبمن قام بتنفيذها، لأنها تتعارض مع تفكير الجماعة كما وردت تفصيلاً في الخطة». حتى «قرأنا تصريحات عدنان عقلة فيما بعد ينسبها إلى نفسه، وإلى رفيقه... متباهياً... ومفاخراً».

خلال العام اليتيم الذي عاشه اليوسف بعد العملية، قبل أن يقضي في كمين استُدرج إليه، أجرت معه مجلة «النصر» الناطقة باسم الطليعة لقاء موسعاً كان أحد أسئلته عن الأحداث التي سبقت العملية وكيف كان تأثيرها عليه. فاستذكر الطرق الإجرامية للمخابرات في تعذيب المعتقلين، مما كان يدور في مخيلته عندما كان يشاهد «أحفاد النصيريين وهم يقومون بعرض عسكري في ساحة كلية المدفعية مدججين بأسلحتهم الرشاشة. ليقوموا بعد ذلك [حين يتخرجون] بقتل وتعذيب المزيد من المسلمين».

إنه قتل على النوايا إذاً. أو، بشكل أدق، على السياق. فقد استهدفت العملية «طلاب ضباط علويين». وفي حين أسقط مؤيدوها، وما يزالون، كلمة «الطلاب»، الذين لم يفعلوا شيئاً عملياً لتصبح ضد «ضباط علويين»؛ أسقط النظام الكلمة الأخيرة التي تكشف التمييز الطائفي في الجيش، لتصبح عملية ضد «طلاب ضباط» فقط، تهدف إلى «قتل الشباب الأبرياء عدة الأمة وأملها في النصر والتحرير»، على حد تعبير الخطاب الرسمي حين أعلن حربه الشاملة التي ما تزال تشتعل.