غزة والمعركة غير المتكافئة

2022.08.07 | 05:04 دمشق

غزة والمعركة غير المتكافئة
+A
حجم الخط
-A

بعد بضعة أيام من التحسُّب والتأهُّب لردٍّ من حركة الجهاد الإسلامي يستهدف مستوطناتِ غلاف غزة؛ على أثر اعتقال قوات الاحتلال قيادي الجهاد بسام السعدي، في جنين من الضفة الغربية، لم تطق حكومة الاحتلال، الاستمرار في دور المنتظِر، وذلك بعد الضيق الذي أبداه مستوطنو غلاف غزة، من التقييدات التي فُرِضت عليهم، ووفق حسابات الحكومة الانتخابية، ووفق الصورة التي تتقاطع عليها الأحزابُ الصهيونية في دولة الاحتلال، وهي الحيلولة دون ظهورها بمظهر الضعف، أو فقدان قوة الردع، شنَّ جيش الاحتلال ضربات على غزة، أدَّت إلى مقتل عدد من المدنيين، ومنهم أطفال، وكان اغتيال تيسير الجعبري، قائد شمال غزة بسرايا القدس، الجناح العسكري التابع لحركة الجهاد الإسلامي، أبرز الأهداف المحقَّقة.

قررت إسرائيل أن لا يطول انتظارها، وأن تقصّر أمد الإجراءات الاحترازية التي شلّت، مجمل الحياة في مستوطنات محيط غزة، فشنَّت ضربات استباقية، كانت مثمرة، نوعيّا، كنصر إعلامي، أو ردعي، ومع أن القيادي في حركة الجهاد، خالد البطش، أعلن تجاوب الحركة مع الجهود المصرية للتهدئة، على قاعدة "وقف الاعتداءات والاعتقالات في الضفة الغربية"، إلا أن إسرائيل لم تلتفت إلى ذلك، وبادرت إلى شن غارات على القطاع قالت إنها قد تستمر أسبوعًا، بالتوازي مع اعتقالات طالت عناصر من الجهاد في الضفة الغربية.

لعل أهم ما يلفت النظر في هذه الموجة من المواجهة، (حتى الآن) هو فقدان الزخم الموحَّد لدى الفلسطينيين، كلٌّ وفق حساباته، وارتهاناته

تختلف "الجهاد" عن "حماس"، استراتيجيًّا؛ الجهاد بعلاقاتها الوثيقة، والأكثر انحيازًا لإيران، وببرنامجها، ليست معنية كثيرًا، أو كما هي حماس، بترتيبات تهدئة، هي أكثر تمحُّضًا للمقاومة، فهي ليست في حالة تنافسية مع السلطة، سياسيًّا، وإن كانت في حالة صدام حتمي، معها، ويتجلَّى ذلك في الضفة الغربية، حيث المسؤولية الأمنية للسلطة في الحفاظ على (الهدوء) في إطار التنسيق الأمني مع الاحتلال.

لعل أهم ما يلفت النظر في هذه الموجة من المواجهة، (حتى الآن) هو فقدان الزخم الموحَّد لدى الفلسطينيين، كلٌّ وفق حساباته، وارتهاناته، كما هو حال السلطة الفلسطينية، ومِن ورائها حركة فتح، وكما ولو بدرجة مختلفة، حركة حماس، التي كانت سجّلت سابقةً براغماتية، أواخر مايو/ أيار، الفائت، حين لم تُلبِّ توقُّعات غير قليل من الفلسطينيين، التي كان لقائدها في قطاع غزة، يحيى السنوار الإسهام الأكبر في تكوُّنها، ذلك حين لم تردّ، بفتح مواجهة مع إسرائيل، على إثر "مسيرة الأعلام" في ذكرى احتلال الجزء الشرقي من القدس، التي كانت عالية الاستفزاز، مع انتهاك للمسجد الأقصى، بأعداد غير مسبوقة من المستوطنين والمتديِّنين المتطرفين، وتكريس لتهويده.

فبعد تصعيد السنوار الذي وصل إلى التهديد بزوال إسرائيل، إن هي واصلت مُخطَّطاتها بتهويد القدس، وإشارته إلى أن المقاومة خطَّطت لإنهاء المعركة الأخيرة برشقة صاروخية من 300 صاروخ، قال إن المقاومة عدلت عن الأمر؛ احترامًا وإكراما للوسيطَيْن المصري والقطري.

يتواكب التصعيد في قطاع غزة، مع مخاوف من تصعيد في الضفة الغربية والقدس، بعدما أطلقت ما تسمَّى "جماعات الهيكل" دعوات للمستوطنين بالمشاركة الواسعة في اقتحام المسجد الأقصى، يوم الأحد، 7 أغسطس، آب الجاري، وتنفيذ اقتحامات جماعية كبيرة، وأداء طقوس تلمودية في باحات المسجد الأقصى، بزعم تزامنه مع ما يسمى "ذكرى خراب الهيكل"

وهناك عدة أطراف يمكن أن يُظهِر استعراض مواقفها هذه المعادلة غير المتكافئة بين دولة الاحتلال والطرف الفلسطيني المنهمك في مواجهته، حاليّا، من حماس، إلى السلطة، إلى ما يسمَّى بمحور الممانعة، إلى الدول العربية، والجامعة العربية، ثم الموقف الدولي، وأميركا، خاصة.

حركة حماس يهمها بالتأكيد البقاء على خط المقاومة؛ استجابة للتوقعات الفلسطينية، للحفاظ على صدقيتها، وشعبيتها الجماهيرية، وللاستجابة لتوقعات أعضائها وأنصارها، لكنها وهي في موقع السلطة الحاكمة في غزة، خلافًا لحركة الجهاد الإسلامي المتحررة من عبء المسؤولية تجاه قرابة مليوني فلسطيني، يعيشون، منذ سنوات، ومنذ سيطرة حماس على الحكم، عام 2007، ظروفًا بالغة القسوة، معيشيًّا، ونفسيًّا، يهم حركة حماس الحفاظ على انفراجة نسبية، حصلت بعد امتناع حماس عن التصعيد، على إثر "مسيرة الأعلام".

حماس في حالة تعارض، في هذه المرحلة، مع الجهاد؛ فهي كانت أكثر تحمسًا لنجاح جهود الوساطة المصرية، كما أنها كانت اعتقلت عددًا من أعضاء الجهاد في قطاع غزة، وبعد بدء الضربات الإسرائيلية لم تشارك حماس في الرد، (حتى الآن، ووفق التطورات الراهنة) وتركت الجهاد وحدها تفعل.

أما السلطة الفلسطينية فهي سائرة في اتجاه آخر، مع أنه مسدود، هو طريق التفاوض، وربما لا تزال تأمل (وتعمل) في انتصار معسكر السلام في إسرائيل، وترجيح كفَّة غانتس ولبيد، في الانتخابات المقبلة.

أما أميركا، فتشغلها ملفات دولية أكثر أهمية بكثير من المواجهة العسكرية غير المتكافئة في غزة، وفي مقدمتها الحرب في أوكرانيا، وتطورات التوتر مع الصين

وفيما يتعلق بإيران وسوريا وإيران، مع حزب الله، والحوثيين! أو ما يسمَّى بمحور الممانعة، فلم نعتد منهم، وأثناء احتدام الحاجة إلى أيِّ إسناد حقيقي يمنع من استفراد الاحتلال بغزة، لم نعهد منهم تحرُّكات على مستوى الأحداث، ولاعتبارات وحسابات دقيقة! تتعلق بمصالح إيران وطموحاتها الإقليمية.

أما أميركا، فتشغلها ملفات دولية أكثر أهمية بكثير من المواجهة العسكرية غير المتكافئة في غزة، وفي مقدمتها الحرب في أوكرانيا، وتطورات التوتر مع الصين، في شرق آسيا، بعد زيارة رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي لتايوان. وهي وإنْ دعت كلَّ الأطراف إلى الهدوء، إلا أنها أكَّدت على حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، وهي إن كانت لا بد تتابع من خلال اتصالاتها بالحكومة الإسرائيلية، ولا تفقد الصلة، تمامًا، بالحركات الفلسطينية، وذلك من خلال الوساطة المصرية، إلا أننا نتوَّقع هامشًا أوسع تمنحه لرئيس الحكومة الإسرائيلية المؤقتة، يائير لبيد، وحليفه وزير الأمن بني غانتس، وهذه الإدارة أكثر تفهُّمًا لحاجات هذه الشخصيات وأحزابها الانتخابية في معرض تنافسها مع الخصم غير المستهان بحظوظه، وغير المفضَّل لدى بايدن، بنيامين نتنياهو.

فرئيس الحكومة الحالي، لبيد، ليس له رصيد عسكري، وهي الميزة الأكثر أهمية وحسمًا في الزعامة، لدى الناخبين الإسرائيليين، هذا السياسي غير اليميني وفق التصنيف السائد، بحاجة ماسّة إلى تكريس نفسه زعيمًا صلبًا، ومدافعًا لا يلين ولا يساوم على أمن إسرائيل.

وفي المحصلة، فإن ما يخشى تكرُّسه تلك النتيجة التي تتكرَّر، لدى انتهاء كل جولة من جولات التصعيد العدواني، وهي دمار كبير في غزة، وأعداد كبيرة من الضحايا، وفي صفوف المدنيين، مع كل الرعب والفزع الأُسَري، وما يخلّفه ذلك في أطفال صاعدين إلى الحياة، مقابل أضرار شبه هامشية تمسّ الحياة في دولة الاحتلال، مع الإقرار بنسبة من الإيذاء المتعلق بصورة جيش الاحتلال الذي تنتقل المعركة إلى جبهته الداخلية، دون أن ينجح قادة الاحتلال، كما في حروب سابقة، في تجنيب جبهته الداخلية تلك العركة وارتداداتها، لكنها في الأغلب أضرار معنوية، مع التجهيزات الفائقة في الملاجئ والملاذات، والاستعدادات، هذا دون أن نغفل أن حركات المقاومة تلتزم، ضمنًا، بحدود من الاستهداف، لا تصل إلى بؤر مدنية، وهي تتعمَّد في الأغلب أنْ لا تقع صواريخها الكثيفة على قلب المراكز الحيوية؛ استبقاء لمستوى معيَّن من ردود فعل مقدورٍ على استيعابها، وكنوع من إدارة المعركة التي لم تنضج الظروف، الفلسطينية، ولا العربية، ولا حتى الممانعية، ولم يحن الوقت، لتكون حاسمة.