غادرني تاركاً عندي واحدةً من ابتساماته

2019.11.29 | 16:53 دمشق

2016-1-640x375.jpg
+A
حجم الخط
-A

طوال الأسابيع الأولى من إقامتنا في سجن تدمر سيلعب الفدائيون دورا كبيرا في تلقي العقوبات – كالمسيح – فداء لنا نحن الضعفاء. إضافة إلى الثلاثة الأول: أحمد عبود وجمال البرّي وفاروق خضور، سيتحمل العبء أيضا تيسير سكيف ومحمد عيسى وباسل الحوراني. جميعهم أقوياء البنية والروح والعزيمة.

سأكتشف لاحقا أن الفدائيين لعبوا دورا كبيرا في المهاجع الأخرى التي لم تكن محظوظة مثلنا ولم يتوقّف فيها التنكيل والتعذيب بعد فترة، تلك التي ضمّت معتقلين بتهم إسلامية أو بانتمائهم إلى بعث العراق أو لأخذهم دروسا دينية أو للمعتقلين كرهائن عن أخوتهم وأبنائهم وآبائهم.

وسأكتشف أن الفدائيين في المهاجع الأخرى كانوا أكثر تضحية من فدائيي مهجعنا. فالتضحية هناك يمكن أن تؤدي إلى عاهة دائمة أو ربما القتل تحت التعذيب. ومع ذلك، كان دائما هناك من يتقدّم للتضحية بنفسه إنقاذا لشاب صغير أو رجل مسنّ.

والتطوّع يأتي غالبا عندما يحدّد أحد السجانين ضحيته في "الشراقة" وهي فتحة في سقف المهجع، يطلّ منها السجانون ليل نهار لمراقبة المعتقلين. وللسجان ألف سبب يسمح له بتحديد المتّهم، بينها الذهاب إلى الحمام، أو الهمس أو التحرك، وأحيانا مجرّد أن يراك مفتّح العينين بعد السادسة مساء. عندما ينادي السجان على رئيس المهجع، ويأمره أن "يعلّم" له السجين الذي همس أو تحرّك أو فتح عينيه مساء. في اليوم التالي يأتي السجان برفقة أصحابه، ويأمر رئيس المهجع أن يُخرج الضحية.

قبل نصف ساعة من ذلك الوقت، يتّفق السجناء على الفدائي الذي سينال نصيب زميله من التعذيب. وغالبا لم يكن السجّانون يميّزون بين السجناء، فبالنسبة لهم جميعهم متشابهون، حليقو الشعر، هزيلون، بأسمال مرقّعة بالية، وشحاطة بلاستيك.  يأمر رئيس المهجع المتطوّع البديل ليخرج، ثمّ يجلس السجناء مُقْعين في مهجعهم يستمعون لصراخ الفتى وهو يتعذّب. أكثرهم ألما سيكون بالطبع الشخص الذي افتداه المتطوّع بنفسه.

سيروي معتقلو تدمر آلاف القصص التي تروي بطولات عجيبة، كان يمكن أن أرميها بالمبالغة لولا أنني رأيت بعينيّ بعضا منها.

كان المهجع 31 مخصصا للمعتقلين الأحداث دون الثامنة عشرة من العمر عند اعتقالهم. وسيروي لي صديقي محمد برو، الذي كان معتقلا فيه، حكاية إحدى أغرب عمليات الفداء. كان أحد السجناء يحاول أن يشجّع زملاءه ويصبّرهم على وضعهم، حين مرّ أحد السجانين، فسمعه يتحدّث، وهو يتلصّص قرب فتحة السقف. نادى السجان رئيس المهجع وسأله من الذي كان يتكلّم. الشاب الذي كان يدرك مصير رفيقه لو أنه سلّمه، قال للسجان: "ما فيه حدا حضرة الرقيب. أنا فقط كنت أعطيهم تعليمات لتنظيف المهجع. أحضر السجّان رفاقه وأمر الجميع بالخروج والجلوس القرفصاء كالعادة، رؤوسهم إلى الأرض وعيونهم مقفلة ثمّ سأل عمّن كان "يتفلسف" بالأمس، وطلب منه الخروج من الصف. رفع نحو عشرة أشخاص أيديهم، وكلّ منهم يعتقد أنه الوحيد الذي فعل، فلم يكن بوسعهم أن يروا الآخرين وهم يرفعون أيديهم. أدرك السجان اللعبة، فأخرج العشرة وعاقب كلا منهم ببعض الركلات والصفعات، ثم سأل: "مين اللي كان عم يحكي." ارتفعت نحو سبع عشرة ذراعا في ساحة المهجع. وفي المرة الثالثة ارتفعت أربعون. عاقب السجّانون المهجع بأكمله، ولكن بدل أن تنصبّ العقوبة على شخص واحد، يمكن أن تقضي عليه، توزعت بين أفراد المهجع بالتساوي، فنال كلّ منهم نحو خمسين جلدة.

سأظل ممتنا لمتطوعي مهجعنا. لم أعرف فاروق خضّور قبل سجن تدمر. ولم أعرفه جيدا حتى في السنوات الأولى. ولكنني كنت أرقبه من بعد. كان دائما شخصا نائيا، يعيش في عالم خاص به، وسيما، بعينين زرقاوين وشعر أشقر، شديد اللطف، ولكنه لا يحبّ الاختلاط بالآخرين كثيرا. حين بدأت الكتب تصلنا، وجد فيها غايته، فقط كان يستمتع بالقراءة ويستخدمها كوسيلة للتنائي.

سأعرفه أكثر حين نُنقل إلى سجن صيدنايا في عام 1987، حيث سنجتمع في مهجع واحد (المهجع 9). وسيكون فراشه قبالة فراشي، ثمّ حين سنُختار أنا وهو بين عشرة أشخاص، ينقلوننا دون سبب واضح إلى فرع فلسطين، فيحشروننا في غرفة صغيرة بضعة أشهر، قبل أن يعيدوننا. سيتاح لي الوقت أكثر لأعرفه عن كثب وأحاول الدخول إلى عالمه الداخلي، ولكن بقليل من النجاح، قليل جدا ربما، ولكنه كان كافيا لأدرك حجم الحزن وحجم الكرم وحجم التعاطف الذي يكنّه للآخرين، دو أن يبدي ذلك، مطلقا. وحين سينقسم السجن إلى مليون عالم صغير، مغلق، ومصمت، سنبتعد واحدنا عن الآخر، وسيختار هو عالما غير عالمي. في السجن، لهذه الأشياء الصغيرة قيمة عالية وتأثير مذهل. أحيانا تهمّك ابتسامة أو كلمة تشجيع، فإن افتقدتها، تشعر أن جزءا من عالمك ينهار. سأراه مرّة واحدة بعد إطلاق سراحنا. كنت أحاول أن أحصل على إذن يسمح لي بالسفر خارج البلاد، وكان يريد الحصول على وثيقة ما. حيّيته بتردد، ولكنه أقبل عليّ باشّا. شربنا شايا في غرفتي التي أعطاني إياها خالد خليفة في بيته الصغير الذي يقبع على قمة تلّة في دمّر القديمة، وضحكنا من الأشياء نفسها التي كانت تدمينا وتبكينا في السجن. وغادرني تاركا عندي واحدة من ابتساماته النادرة.

كان مهجعنا مؤلفا من غرفتين، واحدة داخلية صغيرة وأخرى خارجية. اقترحتُ على أعضاء اللجنة المركزية أن نعقد اجتماعا لأعضاء اللجنة المركزية. كانت الفكرة غبية، ففي السجن، يفقد الجميع صفتهم التنظيمية ويعودون مجرد أفراد في التنظيم. عقدنا الاجتماع في الغرفة الداخلية، وطلبنا من الرفاق الانسحاب إلى الغرفة الخارجية الكبيرة. كنا ثمانية أعضاء في المركزية: فاتح جاموس، نصار يحيى، باسل الحوراني، ياسر مخلوف، عصام دمشقية، أحمد رزق، جهاد عنّابة، وأنا. تحت لساني حتّى اليوم طعم الخوف والقلق الذي استشعرته خلال الاجتماع. وبينما كنت أتحدّث إلى الرفاق، محاولا بثّ الثقة في نفسي وأنفسهم، وبينما كانوا يفعلون الشيء ذاته، كلّ على طريقته الخاصة، كانت جمهرة من الأفكار المتلاطمة تتزاحم في رأسي. من نحن؟ لماذا نحن هنا؟ ماذا يعني مركزية؟ متى سأرى أمي وأختي وغادة؟ متى سأشرب قهوة من جديد وأقرأ جريدة وأحضر فيلما أو حفلة موسيقية؟ متى سأعود إلى شقّة برج الروس، نشرب عرقا ونغني الشيخ إمام؟ أيهما هو العالم الحقيقي: عالم المقاهي والعائلة وجميل حتمل وبرامز وسينما الكندي وكوكتيل المارتيني مع حبّة زيتون قاسية تزين صفحته؟ أم هذه العالم المقفل، الرطب، الذكوري، الموحش، الكئيب والمخيف؟ أيهما الحقيقة وأيهما الخيال: عالم الخارج أم هذا العالم الذي يجتمع فيه ثمانية أشخاص يعتقدون أنهم قيادة سياسية لثمانية وعشرين شخصا مرميين خارج هذا الاجتماع في الغرفة الثانية، يتحدّثون همسا، أو يتثاءبون، أو يتذكرون نساءهم وأطفالهم، وينتظرون ما الذي سنخرج به من اجتماعنا. أيهما الحقيقة وأيهما الخيال؟