"عيب يا شباب؛ هاي اسمها مظاهرة"

2019.02.19 | 23:02 دمشق

+A
حجم الخط
-A

إنها تلك العبارة الشهيّرة التي أطلقها وزيرة الداخلية السوري السابق، سعيد سمّور، في وجه حوالي ألف حنجرة سورية هتفت في وضح النهار، وفي قلب العاصمة دمشق "حراميه حراميه" و"الشعب السوري ما بينذّل". تجمّع المواطنون بعفويّة ردّاً على اعتداء عنصر في الشرطة على مواطن سوري في شارع الحريقة الدمشقي العريق، حادثة ممكن أن تكون أكثر من معتادة، وتتكرر عشرات المرات يوميّا، على طول البلاد وعرضها. إلا أن هذه المرة كان الأمر مختلفاً، هبّت رياح الحرية في قرطاج، وعَصَفت في القاهرة لتصل دمشق.

أطّل الوزير من سيارته، رامقاً الجموع بازدراء، مدهوشاً، فاغراً فمه، موبخاً بحزم "عيب يا شباب، هاي اسمها مظاهرة". جملة بسيطة في ظاهرها، ولكنها تحمل في جنباتها مخزوناً هاماً يتيح لنا ضبط وتفكيك أدبيات السلطة التي عجنت هذا الوزير وأرسلتْه لتهدئة الحناجر الهادرة، ليفصح من خلالها عن حقيقة منطقها وآليات محاكمتها. إنها تعبيرٌ تصريحيّ لا ريبَ فيه، يحيل أي تذمّر أو تملّمل جماعيّ إلى مجال المحظور والخطوط الحمراء، إلى دائرة "العيب" وكأن من يتظاهر يقوم بفعلٍ فاحش أمام الملأ.

لم تكن الخطورة في ماهيّة الشعارات التي أطلقتها الجموع، فهي نددت بالفساد وطالبت بالكرامة؛ لم تقترب من "الشعور القومي" ولم تمس أحداً من "الرموز الوطنيّة". الخطورة الحقيقيّة تكمن في أن تلك الحناجر هتفت مجتمعة، وفي وضح النهار. الخطورة في أنَّ من لا صوتَ لهم؛ بدؤوا بالصراخ، من لا يرونا ولا نراهم، لا يسمعونا ولا نسمعهم، فتحوا أعينهم وآذانهم دفعة واحدة. 

المظاهرة عيب؛ وانتقاد الفساد تغريد مع المؤامرة

ثماني سنوات مضت على تلك العبارة الرناّنة، مات من مات، تهجّر من تهجّر، أصبحت سوريا في ذيل التصنيفات العالمية، على جميع المستويات، السياسيّة، الاقتصاديّة، الأمنيّة، والحريات وغيرها، كارثة من أعظم كوارث القرن؛ إلا أن شيئاً لم يتغير في أدبيات هذه السلطة ومنطقها "الله محيي الثابت". ممنوع التعبير الجماعيّ عن الغضب والألم، ثرثر في بيتك، اغضب مع أصحابك في القهوة أو المطعم، انتقد بصوت منخفض، الأفضل أن تخرس. فالمظاهرة عيب؛ وانتقاد الفساد تغريد مع المؤامرة؛ ومن يطالب بالحليب لأطفاله أو بالغاز لمطبخه ينسى أو يتناسى أننا في حرب ! لكن الحرب انتهت؟ لا، نحن في حرب متعددة الوجوه؛ ووجهها الأخطر والأقبح يتمثل "بمشتقات التواصل الاجتماعي". ليس الكلام وحده عيب في فيسبوك، بل ال "لايكات" والمشاركة أعيب وأفظع !!

إن من انتظر حتى شهر شباط (فبراير) 2011 ليفتح فيسبوك وغيره من مواقع التواصل الاجتماعيّ أمام عامة الشعب، يعرفُ ويدركُ تماماً أهميّة هذا الحيّز الرقميّ ودوره في رفع مستوى وعي الشعب بحقوقه وواجباته. يعرفُ تماماً أن هذه المواقع تشكل مجالاً رَحِباً لحرية الكلمة والتعبير، ويعي أهميّة الصورة والفيديو كأحد أهمّ أعمدة الإعلام المعاصر. وقد تم استخدام تلك المواقع بذكاء وحرفيّة في خدمة أجندة السلطة والترويج لتصوراتها في مختلف مراحل الأزمة. إلا أن السلطة لم تحسب حساب خطِ الرجْعة، ولم تفكر حينها بأن من سيتمرّس في استخدام هذه التقنيّة، ويختبر معنى أن يكون له صوت؛ لن يكون من السهل لجمه وإعادته إلى حظيرة الطاعة.

تستطيع أن تمنع التظاهر، وتغلق المجال العام، لا بل وتستطيع أن ترزع الخوف في قلوب المواطنين حتى من لمسة إعجاب بصورة على فيسبوك؛ إلا أنك لن تستطيع أن تقطع أصابعهم وتغمض عيونهم عن شاشات هواتفهم. التقنية الحديثة سلاح ذو حدين، ستستمر السلطات القمعية في محاولاتها احتكار المجال العام والرقميّ؛ ولكن بالمقابل، سيستمر مواطنوها بابتداع وسائل تعبيريّة مبتكرة. ستحاول السلطة جاهدةً تطوير أساليب مراقبتها وتقييدها لوسائل التواصل الاجتماعيّ؛ إلا أن الشعوب لن تَعدَم وسيلة في التحايل والتلاعب عليها والتعبير عن غضبها وآلامها.

لا نريد المبالغة في التعويل على دور وسائل التواصل الاجتماعيّ، كما يذهب البعض حدَّ اعتبارها أداةً مهمّة في تحقيق ممارسات ديمقراطية أصيلة، أبداً؛ لأن هذه الأخيرة تترسخ بشكل تدريجيّ، ومن خلال ممارسات تراكميّة على المدى الطويل. إلا أن هذه الوسائل تعطي فرصة غير مسبوقة للمواطنين العاديين في التعبير عن آرائهم وتطلعاتهم بشكل جماعيّ وبطرائق منتوعة، لا تنفع معها أدوات الرقابة والقمع المستهلكة.