عودة العرب إلى سوريا الأسد.. الخطيئة مرتين

2020.04.02 | 00:25 دمشق

thumbs_b_c_bc0844f5c9ba05292123d776d2b33cd4.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يمكن الحديث عن الصراع في الشرق الأوسط، بدون الحديث عن سوريا، سواء كانت مؤثرة وصاحبة دور في هذا الصراع وتطوراته مع تقلباتها وفق ما تقتضيه مصلحة النظام فيها، أم كانت في عين الصراع بين قوى إقليمية ودولية تتجاذبها إرادات متعارضة وتتنازع عليها مشاريع مختلفة. الموقع الجيوستراتيجي، والدور التاريخي، يضعان سوريا على فالق زلزالي كثير التحرّك. وإن غاب الدور، يبقى الموقع ذا أهمية تفرض على الباحثين عن أدوار بوضع قدم لهم على أراضيها، أو الإبقاء على صلة مع أي طرف فيها.

تمثّل سوريا جملة تقاطعات في المصالح بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، الدول الأوروبية والصين، وجملة صراعات بين دول أخرى كإيران ودول الخليج مثلاً. تماس سوريا مع "إسرائيل" يفتح آفاقاً على تقاطع السياسات الدولية والموقع الإقليمي، وهي التي وقعت في كنف نظام استثمر حدّ الاستنزاف في زعمه الصراع مع إسرائيل. صراع دُفعت بموجبه كلف وحُصِّلت مكاسب.

من انقلاب البعث في الثامن من آذار 1963، كانت سوريا تدخل في حلقة جهنمية، عنوانها تحالف الأقليات. الضباط الخمسة الذين حضّروا للإنقلاب هم من الأقليات، ثلاثة علويين وإسماعيليان. لم يعملوا إلا على تكليف شخصيات سنّية ضعيفة بالرئاسة، يسهل التحكم بها، ولكن كافية لإعطاء صورة عن وجود الأكثرية في الحكم. إلى أن قرر حافظ الأسد أن يقود سوريا بنفسه، فيتبوأ الرئاسة ويعدّ الدستور الذي يمنحه صلاحيات مطلقة يجعله حاكماً بأمره. التف الأسد على صراع الأقلية والأكثرية بادعاء العلمانية، والنضال في سبيل تحرير فلسطين ومناصرة القضية، ورفض التطبيع أو التفاوض أو التوقيع. طبعاً رفض كل ذلك علناً، وأبرم الاتفاقات سرّاً، منذ العام 1973 مع هنري كيسنجر، وتسلم بموجب هذا سلطته على لبنان، وصولاً إلى المشاركة في حرب الكويت لإخراج القوات العراقية منها، فجدد وصايته على لبنان في حقبة ما بعد الحرب.

عرف الأسد الأب كيف يدوزن مواقفه، مراعاة الأميركيين، توفير أمن إسرائيل وضرب كل قوى اليسار في سوريا ولبنان

عرف الأسد الأب كيف يدوزن مواقفه، مراعاة الأميركيين، توفير أمن إسرائيل وضرب كل قوى اليسار في سوريا ولبنان، من خلال ضرب الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، ما حقق جملة أهداف دولية وعربية، ارتاحت الولايات المتحدة والأنظمة العربية لأداء الأسد. وبذريعة عدم التطبيع والتوقيع، أكمل مسار لعبته، بالقبض على سوريا ولبنان معاً. فكان المؤثر على ساحة الشرق الأوسط. وهو الخبير "بمسار الأقليات" كان يعرف أن علاقته الجيدة مع الدول العربية، لا بد أن يقابلها تقارب مع إيران، بما سيعود عليه وعلى نظامه بالفائدة، والذي كان يعلم حتماً، أن مرحلة ما بعد أوسلو، والضغوط القاسية على العراق، ستدفع بإيران إلى التقدم أكثر في منطقة الشرق الأوسط، لذا لا بد له من الوصل معها.

وبعد وفاته، ذهب بشار الأسد إلى إيران أكثر، ضحى بكل علاقاته العربية، كان شعار الحرب على الإرهاب يجتاح العالم، والإرهاب في حينها انحسر بالسنّة، لذا لا بد من شد أواصر تحالف الأقليات، والذي لا يصب استراتيجياً إلا في خانة توفير أمن إسرائيل ديمغرافياً، سياسياً، واستراتيجياً. اجتياح العراق، والتقدم الإيراني الذي تحقق هناك، وما تلاه من اغتيال لرفيق الحريري أدى إلى إخراج الجيش السوري من لبنان، كان عاملاً تغييرياً بشكل جذري على دور سوريا، بدأت تتحول من المؤثر على الساحة، إلى ساحة للتجاذب. دخل الإيرانيون إلى العراق ولبنان، شددوا من قبضتهم على الأسد الابن. لا يزال مسار الأقليات يسير على نفس الخطى.

ثار السوريون في العام 2011، واحتلوا صدارة تظاهرات الربيع العربي، الذي كان لا بد له أن يتحول إلى جحيم، وفق ما تقتضيه ظروف الأقليات ولعنة الجغرافيا. انهار النظام السوري، انعدم تأثيره على الأراضي السورية، بينما أصبحت سوريا مناطق نفوذ متعددة ومتضاربة، أخذت إيران تمكّن نفسها أكثر، إسرائيل ترسم حزامها الآمن بعمق 40 كيلومتر، تركيا لها منطقتها العازلة ايضاً، القوات الأميركية موجودة في الشرق، والروس على الساحل. وحدهم العرب أصبحوا خارج المعادلة، هنا بالتحديد تحكمت الأقليات بمصير الأكثرية.

 

 

 

وطبعاً، ليس هدف الأقلية إلغاء الأكثرية، هي حكماً غير قادرة على ذلك. غايتها إضعاف هذه الأكثرية، في دورها ومقدراتها. تماماً كما كان الحال أيام الستينيات ما بعد انقلاب البعث في أن يكون ممثل عن الأكثرية صورة ضرورية بلا أي مفاعيل أو مقدرات. كرئاسة لؤي الأتاسي وأمين الحافظ ونور الدين الأتاسي وأحمد حسن الخطيب. ما كان ينطبق على أشخاص في سوريا بعد انقلاب البعث، أصبح سارياً على دول عربية مؤثرة، لم يعد لديها أي تأثير أو فاعلية على مجريات وتطورات الأوضاع، لا في سوريا ولا في غيرها. إذ ينعدم دورها وتأثيرها في سوريا لصالح قوى دولية وإقليمية متعددة، كما انتهى دورها في لبنان لصالح إيران مقابل الولايات المتحدة الأميركية والأمر نفسه ينطبق على العراق.

بقيت إسرائيل وتوفير الحماية لها، أقدس الاهتمامات الدولية، عرف النظام كيف يستثمر بذلك، وأجادت إيران تلك اللعبة، بابتزاز المجتمع الدولي بتهديد أمن إسرائيل بحثاً عن تفاوض ومكاسب. وحدهم العرب بقوا خارج الصورة، حرصت إيران على تماس مع إسرائيل لتبرير وجودها ومشروعها في المنطقة، مدُعية مواجهتها، لكنها تخوض سياسة لا تلبي إلا المصلحة الإسرائيلية، فيما العرب الذي وجب عليهم الشروع بسياسات مناهضة لإسرائيل وإيران ومشروعيهما، لجؤوا إلى الاستنجاد بالإسرائيلي في مواجهة الإيراني. بينما المشروعان لا يصطدمان مع بعضهما البعض، والسلوك الإيراني هو الذي رمى العرب بالحضن الإسرائيلي، وأفضى إلى صفقة القرن، التي أول من سيدفع ثمنها العرب، وسيقبض أثمانها الإيراني والإسرائيلي.

هدف إيران ليس إسرائيل بل دول الخليج. خوضها للمعارك ووضعها للبيادق في سوريا والعراق ولبنان، غايته الوصول إلى الخليج، وتطويقه في تدمر خطوط دفاعه الأولى، أجهزت إيران على الدول الثلاث ووصلت إلى اليمن. مدعمة في ذلك، ببروز تيارات إسلامية إرهابية، مهدت لها الطريق للتوغل. التيارات الإسلامية تمثّل الخطر الذي لا بد من مواجهته بالنسبة إلى الدول الخليجية، التي لم تجد ملاذاً للمواجهة إلا بإعادة وصل ما انقطع مع بشار الأسد، كل بسبب فقدان أي رؤية لمشروع عربي بديل. تجد هذه الدول نفسها منعدمة التأثير في مجريات المنطقة وتحولاتها، وهذه غاية الأقليات الأساسية، لا مجال لهذه الدول إلا بالرهان على كل ما يتناقض معها ومع وجودها ومصالح شعوبها، إسرائيل والنظام السوري بما يمثله من تقاطعات مع إسرائيل وإيران وفق ما يقتضيه تحالف الأقليات.

خطأ العرب المميت، هو في عودتهم إلى الأسد، ليعودوا إلى الشرنقة ذاتها، وقد تختصر تصريحات كثيرة لمسؤولين وقادة خليجيين، المصير المحتوم ما بعد هذه العودة، وهم لطالما اتهموا الأسد بالمراوغة والكذب والغدر والإنقلاب، وكأنهم يردون على أنفسهم، بأن مسار الانفتاح عليه والثقة به ستتبدد سريعاً، حالما ينقلب عليهم، ويتثبتوا مجدداً أنه لا يمكنه الخروج من الحضن الإيراني، وكل الرهانات على جذبه إلى الحضن العربي ستفشل، إلا أنها سترسخ حقيقة واقعة، إصابتهم بالمزيد من الضعف وانعدام التأثير، مقابل الدور الأفعل لـ"الأقليات".