عهد جديد في تاريخ سوريا

2022.05.27 | 05:41 دمشق

سوريا الأسد
+A
حجم الخط
-A

فتحت "سوريا الأسد" مؤخراً صفحة جديدة في تاريخها الحديث، حيث لاحقت كل المجرمين والفاسدين، فقتلت بعضهم وقبضت على آخرين، وصعّدت الشرفاء فقط إلى مواقع القرار فأقامت العدالة بأبهى صورها وأعادت الحقوق إلى أصحابها وحقّقت أحلام شبابها في مستقبل مزدهر، وحصد المواطنون أخيراً ثمار صبرهم ونتائج صمودهم وممانعتهم، وعادت مسيرة البناء والنمو والتطوير والتحديث لتحتل المشهد برمته..

حدث ذلك فقط في الأعمال التلفزيونية التي شهدها الموسم الدرامي السابق، وربما تجلّت هذه الوقائع في أوضح صورها بمسلسل "كسر عضم"، ثم ما إن انتهى المسلسل حتى أفاق المخدَّرون من آثار الغيبوبة ليعودوا مرة أخرى إلى الواقع المأزوم ذاته، استفاقوا على أخبار الخطف والقتل والاعتقالات والتهريب التي لم تتوقف حتى في أثناء بث المسلسلات، ولم تتوقف أيضاً في أثناء مداهمة أوكار المجرمين وقتلهم أو القبض عليهم والتي جرت في الحلقات الأخيرة من المسلسل.

استفاق السوريون على قتلى جدد لا يعرف قاتلهم، واعتقالات لا تُعرف أسبابها، على سرقات أكبر حجماً مما كانت عليه، وعمليات نهب أكثر تطوراً وجرأة من تلك التي تم تصويرها في المسلسلات، استفاقوا على أخبار كبار الفاسدين والقتلة الذين ما يزالون يمارسون نشاطهم الإجرامي بكل أريحية دون أن يعترضهم الضابط "الشريف" ودون خوف من القيادة الحكيمة المتربصة بالفاسدين في المسلسلات فقط، استفاقوا على أخبار أزمات الكهرباء والماء والبنزين، وفقدان المواد التموينية أو غلائها الفاحش، وعلى صراعهم مع قوت يومهم وأمنهم الاقتصادي والنفسي والوجودي.

استفاقوا أيضاً على حواجز جيش الوطن التي ما تزال ترهبهم، وعلى آلة القمع وأجهزة المخابرات التي تحصي أنفاسهم، وعلى المظاهر المعتادة من الإذلال وفقدان الكرامة وانعدام الإنسانية، وعلى واجبات التملق للقيادة وشكرها على صمودها وتصديها واحتفاظها بحق الرد على الضربات الإسرائيلية المذلة والمهينة وشكرها على اعتقال السوريين ثم على قرارات العفو التي يصدرها الجاني عن الضحية.

استفاق السوريون على "سوريا الأسد" ذاتها والتي يعرفونها عن قرب تماماً كما يعرفها صناع الأعمال الدرامية الذين صوروا سوريا أخرى لا تمت لهذه التي لاحقت الفاسدين في المسلسل بصلة

استفاقوا على مفقوديهم وعلى حلمهم بمجرد معرفة مصير أولئك المفقودين، وعلى فقدان الحدود الدنيا للحياة والأمل، لم يجدوا الضباط الشرفاء، ولا أولئك المنهمكين والمهمومين بمطاردة الفاسدين، ولم يجدوا فاسداً واحداً في السجن. باختصار استفاق السوريون على "سوريا الأسد" ذاتها والتي يعرفونها عن قرب تماماً كما يعرفها صناع الأعمال الدرامية الذين صوروا سوريا أخرى لا تمت لهذه التي لاحقت الفاسدين في المسلسل بصلة.

كما أن أبطال تلك المسلسلات وصناع الأعمال من كتاب ومخرجين وفنيين، عادوا ليشتكوا من الفساد الذي دانوه في مسلسلاتهم، وشاركوا بممارسته على الأقل من خلال تزييفهم للواقع، وخداعهم للجمهور ومن خلال خلقهم واقعاً متخيلاً ومتوهماً وبحثهم عن فرص جديدة للعمل في ذات المسلسلات التي يدينون ما تفعله شخصياتها وما يجري في أحداثها، ويدينون الشخصيات التي يلعبون أدوارها في الدراما التلفزيونية وفي الحياة أيضاً، فهم يجدون في استمرار الفساد استمراراً للمسلسلات وبالتالي استمراراً لحالة العمل والارتزاق والتكسب على حساب الحقيقة التي يدّعون الإمساك بها وطرحها في أعمالهم الفنية، إنهم باختصار يتعمدون الاستثمار في الفساد نفسه دون محاربته على أرض الواقع.

يبحث الكاتب عن شركة الإنتاج الفاسدة، وتبحث شركة الإنتاج عن مخرج فاسد، ويبحث المخرج عن مجموعة عمل فاسدة، وتشرف على كل ذلك حكومة فاسدة وقيادة قاتلة، وكل هؤلاء يتشاركون في صناعة عمل درامي يدين الفساد، حسناً إذن، ها هي الدولة تحارب الفساد والفاسدين في الروايات التلفزيونية البوليسية، حيث يستمتع المشاهد بنهاية الأشرار وتعم الفضيلة، أما على أرض الواقع، فانتصار الفاسدين حتمي لأنه محمي من الحكومة والقيادة والدولة، بل إنه شرط أساسي للحياة والعمل، وشرط أساسي للبقاء في "سوريا الأسد"، حيث المواطن مجبر على ممارسة الفساد أو القبول به أو السكوت عنه، وذلك ما يعده القائد ومخابراته "أضعف الإيمان"..

أما حلم الهجرة، فلم توقفه الحالة المخملية التي وصلت إليها سوريا في الأعمال الدرامية، حيث ما تزال الهجرة، وبشكل أدق حلم الهروب من جحيم ذلك النعيم في سوريا، ما يزال هاجساً وهدفاً لمعظم السوريين المحتجزين في مناطق سيطرة النظام، والذين تأكدوا أخيراً أنهم مجرد أرقام أو رهائن أو معتقلين أو عبيد، أو كل ذلك معاً، بعد سنوات طويلة من الأمل في أي بادرة تكفل لهم الحدود الدنيا من الكرامة الإنسانية وحدود الكفاف على مستوى المعيشة.

وصل مئات السوريين إلى أوروبا مهاجرين من بلد العدالة والديمقراطية والازدهار الأسدي قبل عرض المسلسل، وفي أثناء عرضه كان الآلاف يتفقون مع المهرّبين لإخراجهم إلى أي بلد آخر يصلح للحياة، وبعد انتهاء المسلسل ما تزال النسبة الكبرى من السوريين مهمومة بطريقة للمغادرة ومستعدة للمغامرة ولخسارة كل شيء مقابل الخروج من جنة الأسد وعبقرية مسلسلاته الدرامية ونهاياتها السعيدة.

ربما صنعت المسلسلات هدنة مع الفساد، هي هدنة مؤقتة وافتراضية، هدنة متخيلة ووهمية لا وجود لها على أرض الواقع، ومع ذلك خرق النظام تلك الهدنة كالمعتاد، فعصابة الأسد مستعدة للمهادنة والتنازل عن الأرض والسيادة، مستعدة لتمزيق سوريا وتقطيع أوصالها، مستعدة لتهجير من تبقى، مستعدة للقتل والإبادة، مستعدة لتوسيع الحفر وتحويل سوريا كلها من سجن كبير إلى مقبرة جماعية، ولكنها غير مستعدة للمهادنة مع أي مبادرة تعود على السوريين بالنفع أو من شأنها أن تحسن أوضاعهم، ولا تتنازل عن حقها في الفساد والنهب ولا عن حق القتل والاعتقال والإبادة، ليس لدى النظام وقت يضيعه في الإصلاح وملاحقة الفاسدين والقتلة ومحاكمتهم لأنه حينذاك سيلاحق نفسه، ويحاكم نفسه، لقد أدمن النظام الفساد والإجرام أكثر مما يدمن المتعاطون المخدرات، ولذلك فهو غير قادر على الحفاظ على هدنة حتى وإن كانت في مسلسل درامي..

مهما حاولت ماكينة النظام الإعلامية أن تزيف حياة السوريين، فإن ماء الواقع يكذب غطّاس الأسد

مهما حاولت ماكينة النظام الإعلامية أن تزيف حياة السوريين، فإن ماء الواقع يكذب غطّاس الأسد، وإذا كان السوريون مضطرين للتعامل مع حالة الزيف تلك على أنها الحقيقة، فإن مجرد حلمهم بالهروب من سوريا كفيل بهدم كل الوهم الذي يحاول النظام ترسيخه من أجل تجميل صورته..

أما دراما النظام فقد خطّت لنفسها منهجاً قلبت من خلاله المعايير، فإذا كانت مهمة الدراما على مر العصور هي محاكاة الواقع من أجل الارتقاء بالإنسان، فإن دراما النظام تطلب من الواقع أن يحاكي الدراما، فيجعل من الواقع نفسه مجرد حدث افتراضي وعلى السوري أن يشعر أنه يعيش في مسلسل كوميدي سعيد النهايات، في حين التراجيديا السورية الحقيقية والواقعية والدامية ما تزال تتعمق، ويصر الأسد على الاستمرار في إنتاج هذه التراجيديا وعرضها على أجزاء متتابعة ومتصلة على مدار العام وليس فقط في شهر رمضان كما تفعل الدراما التلفزيونية.