icon
التغطية الحية

عن وادي الغرابة المألوفة والتشابه حد الفزع

2020.12.04 | 19:09 دمشق

untitled-1.jpg
باريس - عمّار المأمون
+A
حجم الخط
-A

نقرأ في قصة "الطاغية يكره المرايا" التي لم تؤلف بعد، عن ديكتاتور مهووس بذاته -maniac en soi، يُرسل رجال مخابراته بين شعبه، ويوظف أجهزة المراقبة ويطور الأبحاث العلميّة كي يبحث عن أشباهه، وكلما تقدم الطاغية بالعمر، انتقلت عملية إيجاد الأشباه إلى فئة سكانية أخرى، يتعرض إثرها كل فرد لمسح جسدي كامل، للتأكد من قياساته ومدى اختلافها أو مطابقتها لجسد الطاغية.

 في حال تم إثبات التشابه علمياً بالمقاييس والمعايير، يُرسل الفرد إلى مكتب الطاغية، هناك يتأمل الاثنان بعضهما البعض عراةً، ليقوم الطاغية بعدها بقتل شبيهه-Doubleganger وسلخ جلده ثم إحراقه، ضامناً عدم إمكانية الاستفادة من هذا الشبيه بأي شكل.

المتلازمة المصاب بها هذا الطاغية هي إحدى أنواع الهوس، الذي يرى "جيسون محقق" أن المهووس قد يدمّر العالم كله في سبيل موضوع هوسه، وفي حالة الطاغية المهووس بذاته، نحن أمام فرد يقتل ويدمر كل من يشبهه، كي يبق وحيداً، والأهم، كي يموت أخيراً متفرداً دون أن يشبهه أحد.

ينبع هوس هذا الطاغية المُتخيل من عدم يقينه من صورته المتغيّرة عبر الزمن، هو يدرك أن تكوينه الفيزيائيّ غير مضبوط، إذ يتلبسه خوف من تبدلات جلده وحوافه، أما هوسه بشبيهه، فليس إلا محاولة للتيقن من وجوده ذاته، وسعياً إلى لحظة موته التي يَثبتُ فيها شكله دون تغيّر، وضماناً لعدم حدوث لبسٍ بينه وبين "آخر" يشبهه لحظةَ تحنيطه وعرضه للعلن.

يندرج الخوف من التشابه الذي يعتلي الطاغية السابق تحت تعبير الـUncanny، الكلمة التي تتعدد معانيها وتصعب ترجمتها بالعربيّة، فالموصوف بها هو: (المألوفُ المُخيف، المَعروفُ المُريب، المُميزُ حدَّ الرُعب، الغَريبُ بألفتَه، والمُفزعُ بحضورهِ، الموحشُ بريبتهِ، المُحير بفُحشه، والفاحشُ بيقينهِ، ذو الوضوحِ المُبهِم والمُبهَم).

تناول سيغموند فرويد الشعور السابق في كتابه الصادر عام 1919 بعنوان "The Uncanny"، وفي الجملة الأولى من الفصل المخصص لهذه الكلمة، نقرأ أن هذا الشعور أو الإحساس ينتمي للـ"أبحاث الجماليّة"، التي وجد علم النفس ذاته مضطراً للخوض بها.

الإحساس الجمالي بالتشابه يعيدنا إلى العملية العقلية التي تتفعّل حين "نحدّق" أو "نشاهد"، كوننا نُدرك معارف جماليّة لا يمكن ضبطها أو نقلها، بل فقط الإحساس بها، ما يعني أن الحس الجمالي قابل للانتقال بالعدوى التعاطفيّة، لكن يمكن لأعراضه أن تظهر أيضاً لدى من يُدركه فقط.

يحرك التشابه الرعب في السياقات السياسيّة، إذ يتفعّل الخوف لدى من يكتشفه، وهذا ما تشير له الباحثة سلوى إسماعيل في كتابها "The Rule of Violence: Subjectivity, Memory and Government in Syria "، إذ تذكر قصة الشابة الحمصية زينب الحصني، تلك التي ماتت ثم لم تمت!، قال أهلها أن النظام السوري اعتقلها وقتلها، وبعدها كذّب النظام السوري هذه الحكاية، وظهرت في مقابلة على التلفاز فتاة تقول أنها "زينب الحصني" مع هوية شخصيّة رسميّة.

 تعلق سلوى إسماعيل على الموضوع بقولها إن ظهور "زينب الجديدة" يحرك الرعب لدى المشاهدين، خصوصاً أن تلك التي على التلفاز تشبه تقريباً تلك التي يقول أهلها أنها ماتت وتسلموا جثتها، لكن هناك فروقات بين الاثنتين" جبهة وخدي زينب على التلفاز أعرض من زينب الحقيقية، كما أن عيني زينب على التلفاز أشد ميلاناً من تلك الحقيقية"، وتضيف الأمر مرعب لأن زينب نهضت من الموت، ما يعلّق التصديق لدى من يشاهد، ويفعل الفزع بسبب التشابه، ذاك الذي لا يصل حد التطابق، بل حد الفزع من تصديق إمكانيته، ومن احتمال قيام أحدهم من الموت.

كابوس قيصر

يتفعّل الرعب عبر التشابه حين يتقابل المألوف مع آخر مُطابق له، أي حين يظهر "جديدٌ" يستدعي "آخراً"  سبق لنا رؤيته وتخزينه في الذاكرة مع معرفة استحالة استعادته مرّة أخرى أو وجود شبيه له. هذا الحس بالرعب والفزع من المألوف، نسمع عنه لدى الكثيرين ممن شاهدوا مطولاً "صور قيصر"، البحث فيها ترك البعض يقعون في فزع التشابه، ربما جثة أحدهم تشبه ابناً أو أباً أو أخاً. تظهر هذه الحالة على وسائل التواصل الاجتماعي، يلتقط أحدهم تشابهاً بين جثة وشخص، ويعلن موته، ليتم لاحقاً التأكد أو النفي. 

يزداد الرعب حيث نتأمل في الصور طويلاً، فيجد الواحد منّا شبيهه، آخراً، جثةً مُعذّبةً، تشابهه من وراء الشاشة، ليتفعل الفزع، ويشير فرويد إلى أن الأمر قد يصل إلى حد نوبات الصرع، والسبب، تجلي إمكانية بعث الحياة في ذاك الميت الذي بلا نفس، والأشد ترهيباً للأنا هو اليقين بإمكانية تبادل الأدوار معه، وهنا نستعيد إحدى المعاني الفرعية لكلمة Uncanny التي بحث فيها فرويد، وهو "أن تدمر الراحة في الوطن".

ربما هي مصادفة أن يحضر هذا المعنى المشتق من كلمة "منزل" الألمانيّة، فالرعب المألوف يتحرر حين نشاهد الصور ونحن في سوريا، لأننا "نعلم" إمكانية انتهاء الواحد منا كواحدة من الجثث، في مدينة كدمشق مثلاً، حيث فروع الأمن المرئيّة تجاور مساحات الحياة اليوميّة،  إذ يشتد المريب في ألفته والموحش في ظهوره كوننا نبعد خطوات عن مصير مشابه لمصير المعتقلين، فـ"التشابه" الذي إن افترضنا أنه حسٌ جماليّ، يحوي "معرفة" و"عواطف" تبقى حبيسة الذات لا لغة لنقلها، هناك فقط رد فعل جسدي يتمثل بالفزع، أي عدم اليقين من صورة الذات حين مقارنتها مع الشبيه، وإدراك لهشاشة اللحم البشريّ أمام صورة "الآخر" الميت بسبب العنف السياسي.

الرعب من اللايقين

هذا اللايقين حول معنى كلمة Uncanny، يرتبط باللايقين الذي يسببه التشابه أيضاً، وهنا يظهر الرعب بوصفه نتيجة لعدم المعرفة أو عدم القدرة على التأكد، ما يجعله سلاحاً سياسياً للترهيب، وهذا ما يتضح في سوريا عبر صور سهيل النمر، ذي الأوجه المتعددة التي تختلف عبر الزمن، و كأن له بدلاء يلعبون دوره، أو ربما هو تمثال شمعي تبعث فيه الحياة مراراً حسب مقاربة فرويد. 

نتحدث هنا بدقة عن خصائص جماليّة ندركها، لا حقيقة إن مات النمر أو لا، أو إن تم استبداله، بل نقصد عدم اليقين من صوره بالرغم من الادعاء بأنه ذات الشخص، ما يجعلنا أمام شخص يمكن له أن يناقض الحقيقة الوحيدة التي نتيقن منها، ألا وهي "الموت والاستمرار بالموت".

رد الفعل العاطفي المرتبط بالتشابه قد يظهر بصورة مغايرة ترتبط أيضاً باللايقين، أعرفُ حكاية عن أمّ، حين تكون في الشارع نراها تَركضُ وتقبّل كل من يشبه ابنتها المسافرة، تُثير جلبة في المكان العام، وتنادي الفتاة الغريبة باسم ابنتها المسافرة، وتردد قائلة وهي تبكي، أنها ابنتها التي لم ترها منذ سنوات.

هذه الأمّ، تبحث عن أشباه تدركهم هي فقط، وحين تُبرز صورة ابنتها لمن تعانقها، لا تجد الفتاة الغريبة تشابهاً بينها وبين الصورة، الأمر يحدث فقط في عقل الأم، تُحاول استبدال ابنتها لثوانٍ لكن دماغها يعجز، فيتفعل الفزع العاطفي، والرغبة بالتيقن من أن الحاضر الآن، يختلف عن "الغائب"، لكنه مرئي.  

تقول الأم عادة وهي تجفف دموعها بعد عناق طويل مع فتاة غريبة "ابنتي أجمل منك"، وكأن تكاثر "الأشباه" يعني كثرة الغائبين في المكان المألوف على حساب الحاضرين، ما يعيد لنا المعنى المرعب الذي اقتبسناه من فرويد: "دمار الراحة في الوطن".

إدراك جماليات الأنا والرحلة في وادي الغرابة المألوفة

هناك فرضية جمالية تسمى "وادي الغرابة المألوفة -Uncanny valley" يقترح منظروها أن الدماغ يمارس عملية يحدد إثرها مقدار التطابق بين ما نراه وبين ما نعرفه، أي هناك حد للإدراك، يولد لدينا شعوراً باليقين نقرر إثره أن ما نراه إما نُسخة شمعية مفزعة أو أصل حقيقي يمكن التعاطف معه.

هذ الحد يرسم جمالياً الفرق بين "الحقيقة" و"أشباهها"، ويضبط رد الفعل العاطفي الخاص بكل واحد منها، وما يرسخ هذا الحد هو ذاكرتنا المسبقة عمّا نراه، وتراكم صوره وأشكاله، وهذا ما يراهن عليه التشكيلي السوري عبد الرزاق شبلوط، الذي تبدو العناصر في لوحاته كأنّها "حقيقة"، لا نصدق أنها لوحة إلا بعد تمعن طويل وإعادة نظر فيما نعرفه من صور فوتوغرافية.

لكن، إن تبنينا تفسيراً ملتوياً، يمكن القول إن هذه المساحة تختزن أيضاً صورة "الأنا"، تلك الصورة العقلية التي نمتلكها عن ذواتنا عبر المرآة، والتي إن لم نعرفها، لن نميز "حقيقة" الآخر، الشبيه لنا، والذي من الممكن إن رأيناه ونحن محرومون من صورة الأنا، أن تتفعّل صدمة نكتشف إثرها شدة ما اختبرناه من عنف مورس علينا لنفي صورة الذات بالمعنيين الحرفي والمجازي.

تبدو الفرضية السابقة، شديدة الحذلقة والاستحالة، لكن يمكن أن يتّسع "وادي الغرابة المألوفة" إلى حد الهذيان المأساوي، هذا ما يمكن أن نقرؤه في مسرحية "واي- صيدنايا" للمسرحي السوريّ رمزي شقير، إذ نقرأ بلسان رياض، مواطن تركي، ومعتقل سابق في سجن صيدنايا، أنه كان يتمنى وهو في الزنزانة المنفردة امتلاك مرآة تواسي وحدته، ليرى عبرها وجهه وصورته، ثم يتخيل بعدها صورة أخيه الذي لا يعرف وجهه الآن.

يزوره أخوه بعد سنوات في السجن، وما إن يرى رياض "شبيهه"، حتى يقول " أدركت حينها أني أصبحت أصلعاً، وأني أمضيت سنوات طويلة في السجن".

ما اكتشفه رياض يتحرك على مستويين، الأول يرتبط بصورة الأنا وتكوينها الفيزيائي والتي "تظهر" فجأة أمام الشبيه، الذي يدرك عبره رياض تراجيدية تدفق الزمن في جسده ضمن شرط لا إنساني، والمستوى الثاني، يرتبط بالقمع الشديد، إذ يمكن أن يتسع وادي الغرابة المألوفة في ظل الشرط السابق، ليفقد الزمن قيمته، وتتلاشى الصور عن الأنا والآخر، ولحظة ظهور الشبيه، يتكاثف الزمن ويتجمع في لحظة واحدة، لحظة اكتشف عبرها رياض أن عنفاً سياسياً شديداً سرق منه زمنه وصوره.