عن كنوز المعتقلين وأهاليهم (1)

2021.01.22 | 00:04 دمشق

1463920095621139900.jpg
+A
حجم الخط
-A

ينطلق هذا الحديث ذو الشجون من تقرير نشرته "رابطةُ معتقلي ومفقودي صيدنايا"، قبل مدة قصيرة، فيه تفاصيل عن استغلال أركان النظام الأمني السوري لعائلات المعتقلين، وابتزازهم بمبالغ وصل مجموعُها منذ بداية 2011، بحسب التقرير، إلى تسعمئة مليون دولار أميركي.

إن هذا، في الحقيقة، واحد من الأخبار الطريفة؛ طرافتُه تأتي من كونه حلقةً صغيرة ضمن سلسلة طويلة من حكايات اعتقال نظام الأسد لأفراد الشعب، ثم ابتزازهم واعتبارهم (بقرة حلابة)..

إذا أردنا تصنيف الخبر على ضوء مصطلحات القانون السوري فسنجد أنه ليس أكثر من (جنحة)، فإن أنت جالستَ اليوم أي مواطن سوري تجاوز الستين من عمره، ستجد رأسه مثقلاً بقصص وحكايات بالغة الغرابة حول هذا الأمر، لا يجرؤ أن يبوح بها أمامك إلا إذا كان يعيش خارج سوريا، أي أن يكون في منأى عن الاعتقال والتعذيب. (أعرف رجلاً من أكبر المعادين لنظام الأسد، وهو خارج سوريا منذ تسع سنوات، ومع ذلك لا يجرؤ على ذكر ما جرى معه أثناء اعتقاله إلا أمام المقربين جداً، ليس هذا وحسب، بل إنه يتهرب من أخذ صورة معنا نحن أصدقاءه، لأننا معارضون).

أذكر أنني التقيتُ، قبل نحو عشرين عاماً، صديقي الفنان علي فرزات، في كافتيريا فندق الشام بدمشق، وحكى لي عن رجل كان يبحث عنه بالفتيل والسراج، فلما التقاه طلب منه أن يرسم كاريكاتيراً للحالة التي يمر بها، وهي أن شقيقه موظف، ارتشى بخمس عشرين ليرة، وكان حظه سيئاً فألقوا القبض عليه متلبساً أثناء تلقيه الرشوة، وهو الآن في السجن.. وأما الحالة الكاريكاتيرية فهي أن أهله يدفعون رشاوى مقدارها 500 ليرة كلما ذهبوا لزيارته!

هناك حالات يصدر فيها أمر اعتقال مجموعة من الناس عن حافظ الأسد شخصياً، مثلما حصل يوم نشرت جريدة البعث، بالخطأ، مقالةً للكاتب ياسين رفاعية

هذه الحكاية، بدورها، وعلى الرغم من رمزيتها، ليست أكثر من جنحة، لأن السجين هنا عادي، يتبع لقوى الأمن الداخلي (الشرطة المدنية)، والسجن معروف مكانُه، ومدة الحكم محددة، والزيارة ممكنة ضمن برنامج معلن، وحتى الرشاوى التي يدفعها أهالي السجناء للشرطة والسجانين متعارَف عليها، الأكل والشراب العاديان بتسعيرة، وكل خدمة إضافية لها تسعيرة، فإذا أراد السجين أن يتعاطى الحبوب المخدرة، أو يدخن، فعليه أن يزيد المبلغ المعلوم.. وأما السجون والمعتقلات التي يودع فيها معتقلو الرأي فلا يَعرف أحد على وجه الدقة أين تقع، ولا لمن تتبع، وكل واحد من السجناء يَعرف تاريخ اعتقاله بدقة، وأما تاريخ مغادرته المعتقلَ فلا هو، ولا أهله، ولا السجانون، ولا رئيس الفرع الذي اعتقله، يستطيعون تحديده، لأن السجين يبقى مدة طويلة قيد التحقيق، ومدة طويلة أخرى تحت إمرة محكمة أمن الدولة، وهي محكمة سرية أكثر حقارة وغموضاً من السجن نفسه، وحكاياتُها تملأ صفحات الكتب والمجلات والجرائد، وهي مؤلمة على العموم، على الرغم من طرافة بعضها كتلك الحكاية التي تقول إن رئيس المحكمة الواطئ "فايز النوري"، بعدما أصدر حكماً على أحد السجناء مدته خمس سنوات، انتبه من كنيته إلى أنه ابن مدينته، فقال له:

- أنت مو ابن فلان؟

قال السجين: نعم.

قال: أوف. تذكرت، من زمان أبوك استعار من أبي قاشوشة الجب، ولم يعدها إليه، لذلك حكمناك بعشر سنوات يا ابني!

النظام في سوريا يحتفظ بالسجين، في بعض الحالات، إلى أن تنضج الظروف الموضوعية والتاريخية التي أوجبت سجنه، أو إلى حين انتهاء المؤامرة الكونية على سوريا الصمود والتصدي، وعليه يكون التوقيف لأجل غير مسمى، أو يحمل اسم "التوقيف الاحترازي"، يعني أن وجود هذا الرجل في الهواء الطلق، في الوقت الحاضر، يهدد أمن الدولة والنظام والشعب الصامد..

والصمود، في قاموس النظام السوري، كثير الاستعمال، فالسجين نفسه إذا صمد في وجه الضرب، والتعذيب، والسباب على أمه وأخته، والطعام الرديء، وقلة الدواء، وسوء التشمس والتهوية، يكون من أولي الأعمار الطويلة، وإذا لم يصمد يكون عمره قد انتهى، ولكل أجل، كما تعلمون، كتاب.  

هناك حالات يصدر فيها أمر اعتقال مجموعة من الناس عن حافظ الأسد شخصياً، مثلما حصل يوم نشرت جريدة البعث، بالخطأ، مقالةً للكاتب ياسين رفاعية، تتضمن مراجعة كتاب تراثي. كان الموضوع عادياً جداً، وكل الشواهد الموجودة في المقالة مأخوذة من الكتاب التراثي، حرفياً، ولكن، معلوم أن كتبنا التراثية أكثر حرية وأقل تزمتاً من رقابات الأنظمة القمعية.. وقد حدث أن أحد مشايخ السلطة التقى حافظ الأسد في الجامع خلال مناسبة دينية، وهمس في أذنه أن المقال الذي نشر في صحيفة البعث مسيء للدين الحنيف، فهز حافظ رأسه على طريقته الملأى بالحقد على عموم السوريين، قائلاً: عُلِم.. وفي اليوم التالي دهم رجال الأمن مبنى الجريدة (وهو في الوقت ذاته مبنى وزارة الإعلام السورية. فتأمل!)، وأخذوا المديرين الذين لهم علاقة بنشر مقالة رفاعية، والمحررين، والمدققين اللغويين، وضاربي الآلة الكاتبة، وعمال القهوة والشاي، وعمال تنظيفات القسم الثقافي، قشة لفة، إلى السجن، ونقعوهم فيه كالعادة.

العاملون في جريدة البعث محسوبون من عظام رقبة النظام، والكل يعرف أن هذه التوقيفة لا تعدو كونها "شدة أذن صغيرة" تتضمن رسالتين موجزتين، الأولى موجهة إلى جماعة النظام مفادها (إنني، حافظ الأسد، أعادي الدين، وفي الوقت نفسه أُظهر نفسي بمنظر المدافع عنه، منشان هيك ما بدي حدا من جماعتنا يخربط لي الشغل)، والرسالة الثانية موجهة إلى المجتمع، بقصد دغدغة مشاعره الدينية، تقول: شوفوني، عندما يتعلق الأمر بالدين أنا لا أرحم أحداً؛ حتى ولو كان جريدة البعث! 

كانت المشكلة الأساسية بالنسبة لمعتقلي الجريدة يومئذ، وكان بينهم الشاعر الفلسطيني عبد الكريم عبد الرحيم، والخال المحترم وليد مشوح، هي أن حافظ الأسد قال (خدوهم)، ولم يحدد متى (يرجعوهم). وأما بالنسبة لمعارضي النظام الذين يقول حافظ الأسد (خدوهم) فإن وضعهم أصعب من السليماني والكرّاتي، وسوف نتحدث عنهم بالتفصيل في الجزء التالي من هذه المقالة.