icon
التغطية الحية

عن كتاب "بدايات السيرة الذاتية عند العرب" لـ محمد الوردي

2022.10.11 | 05:58 دمشق

ادب
+A
حجم الخط
-A

يحفل التراث العربي بنصوص كثيرة، تندرج ضمن الكتابة السيرية أو الكتابة عن الذات، وتنوعت كماً من حيث عدد الصفحات، وكيفاً من حيث الاختصار والإيجاز أو الاستطراد والإطناب، كما تنوعت من حيث شموليتها جميع مراحل حياة صاحبها أو اقتصارها على مرحلة بعينها من حياته، الأمر الذي يشي بعدم وجود نسق تأليفي يحدد خصوصيات الكتابة السيرية، سواء على مستوى الشكل أم مستوى المضمون، لكنها ترتبط بوجود عناصر ثابتة بينها، سواء من جهة اشتراكها في التطابق بين المؤلف والسارد والشخصية، أم من جهة سردها محطات من قصة حياة صاحبها، إضافة إلى أنها حافظت على نظام ما، يُؤلف بين الأحداث، ويستدعيها من الماضي صعوداً حتى الوصول إلى زمن الكتابة.  

ويعتبر، محمد الوردي، في كتابه "بدايات السيرة الذاتية عند العرب: الأعراف والأنواع والمقاصد" (سليكي إخوان، طنجة، 2021)، أن الكتابة عن الذات في التراث العربي عموماً، والصوفي خصوصاً، ترتبط بمحددات بلاغية دقيقة، تتجسد في بناء صورة مثالية عن الذات، بحيث تصبح التجربة الشخصية مدخلاً يتأسس عليه خطاب تربوي وتعليمي، وفق بناء بلاغي خاص يرتبط بسياق تواصلي إرشادي، وذلك لأن كاتب السيرة هو في الغالب فيلسوف أو عالم كبير أو شيخ مشهور، أي أنه شخص مشهور وناجح ومثير للإعجاب، الأمر الذي يجعل من تفاصيل حياته مهمة ومغرية للتقليد، بحيث تحضر صورته في السيرة بوصفها نموذجاً مثالياً ويحتذى بها. وعلى هذا الأساس قسّم أبو حيان التوحيدي الحياة إلى أصناف، أهمها: الحياة الطبيعية، والحياة المعرفية والعلمية، واعتبر أن الحياة الطبيعية يشترك بها الإنسان مع الحيوان، ولا ميزة فيها، ولا قيمة يمكن أن يشاركها الإنسان، وبالتالي لا تفيد كتابتها أو نقلها إلى الآخر. أما الحياة المعرفية والعلمية الحافلة بالعلم والمعرفة والفهم والدراية والحكمة والبحث والاستنباط فهي التي يجب أن تكتب، كونها تصنع النموذج الإنساني القائم على مبدأ التميز والتفوق، وهذا المفهوم الخاص للحياة هو من حدد خصوصية السيرة الذاتية في الثقافة العربية، وتجسدت وفقه الكتابة عن الذات بوصفها فعلاً بخص العلماء والأولياء والشخصيات المشهورة، وارتبطت بنماذج إنسانية مؤثرة، مثل المحاسبي والترمذي والغزالي والشعراني وابن عجيبة في التصوف، أو ابن الهيثم وابن سينا وابن خلدون والسيوطي في العلم، وبالتالي فإن التراث العربي أسهم بقوة في تأسيس جنس السيرة الذاتية، لكن سلطة المحددات البنيوية الغربية لهذا الجنس الأدبي أعاقت القراءات العربية الحديثة للسير العربية القديمة، التي لا تخضع للمحددات البنيوية في العالم الغربي، لذلك تناولت دراسات عربية قليلة السيرة الذاتية في التراث العربي، وحاولت تقديمها بالانطلاق  من أسئلة خاصة، تاريخية، أو اجتماعية، أو أدبية.

يعمد المؤلف إلى عقد دراسة مقارنة بين ما يعتبره السيرة الروائية الغربية، المرتبطة بالتراث الغربي المسيحي والسيرة الروائية في التراث العربي، المرتبطة بالتراث العربي الإسلامي، لافتاً إلى أن بعض الدراسات الغربية الحديثة اعادت الاعتبار لمساهمة الحضارة العربية في نشوء هذا الجنس الأدبي

ويلاحظ في المجال العربي تعدد التصنيفات التجنيسية المستعملة، التي تنولت تسمية المؤلفات التي يقصد أصحابها كتابة تجربتهم بطريقة ما، بين سيرة ذاتية، أو ترجمة ذاتية، أو ترجمة شخصية، أو ترجمة النفس، أو السيرة الشخصية، وجميع هذه المفاهيم تقصد وصف النمط الكتابي نفسه، المجسد في مجموع المصنفات المستقلة التي يقصد أصحابها التعريف بأنفسهم، والحديث عن تجربتهم في الحياة العملية، أو الروحية، أو السياسية، لذلك تعددت المصطلحات التي تصف النوع العام المنظم للكتابة عن النفس في السرد العربي القديم، من دون أي تدقيق في مسوغات الشكل أو المضمون، التي تفسر ترجيح مصطلح على الآخر.

ويعمد المؤلف إلى عقد دراسة مقارنة بين ما يعتبره السيرة الروائية الغربية، المرتبطة بالتراث الغربي المسيحي والسيرة الروائية في التراث العربي، المرتبطة بالتراث العربي الإسلامي، لافتاً إلى أن بعض الدراسات الغربية الحديثة اعادت الاعتبار لمساهمة الحضارة العربية في نشوء هذا الجنس الأدبي وتطوره في العصور الوسطى، وتناولت أغلب السير العربية الشهيرة، مثل سيرة الحكيم الترمذي، والغزالي، وابن خلدون، والسيوطي، والشعراني، وسواهم.

غير أن دراسات المركزية الغربية حاولت تسويق الادعاء بأن السيرة الذاتية جنس خاص بالثقافة الغربية المسيحية، كونها ارتبطت في أصولها بالدين المسيحي، وتحديداً بشعيرة "الاعتراف"، الذي يعتبر مدخلاً من مداخل التطهر من الذنوب، وبالتالي كُتبت السير الذاتية في نماذجها الكلاسيكية بالارتباط مع ثقافة التطهر في المسيحية، وما يتبعها من رغبة التخفيف من وخز الشعور بالذنب، الذي يتبع فعل الخطايا ولا يخفف إلا بالاعتراف والاعتذار، من خلال تعرية الذات وكشف عيوبها. وعليه ارتبطت السيرة الذاتية القائمة على "الاعترافات" باسمين كبيرين، هما القديس أوغسطين المؤسس، وجان جاك روسو المطوّر، الذي يكاد يجمع الدارسون على اعتباره المؤسس الأول للسيرة الذاتية الحديثة، لأن ما يميز تجربته، باعتبارها النموذج الأنضج للسيرة الذاتية، هي أنها فتحت تقاليد جديدة لهذا النوع من الكتابة في الثقافة الغربية، وذلك من خلال ترسيخه فكرتين أساسيتين، أولهما التحرر من الفكر الديني الكنسي، حيث تغيّر عند روسو مفهوم الاعتراف وغاياته. أما ثانيهما، فهي النزعة الفردانية في السيرة الذاتية، كونها تقوم بأكملها على الإيمان بالفرد والأنا. إضافة إلى أن السيرة الذاتية مع روسو تخلصت من النوازع الدينية، مع محافظتها على الاعتراف كمدخل للكشف عن خبايا الذات بصدق وشفافية، وهي أهم خصائص هذا الجنس، كما أن كتابتها من أجل القارئ بدوافع تواصلية خاصة متحررة من كل رقابة ومن كل سلطة مقيدة، فتح المجال أمام الكتابة الأدبية الاستعراضية، ورفع القيمة الجمالية في هذا النموذج الكتابي.

بالمقابل، تتعدد الأسماء والمصطلحات التي وصف بها العرب مصنفات الكتابة عن الذات في التراث العربي، والتي استعملت في سياقات متعددة للدلالة على الكتابة عن الذات في مصطلحات متقاربة تقارباً دلالياً، مثل السيرة، والترجمة، والبرنامج، والفهرسة، والمناقب. وجميعها تصف السرد الذي يكتبه إنسان عن نفسه، إما في شكل أخبار ذاتية متفرقة، أو في سرد مسترسل وتصاعدي، لكن المؤلف يرى بأن أغلب الدراسات انطلقت في تعريفها للسيرة من تجليات السيرة الذاتية المعاصرة، ولم تراع خصوصيات الكتابة عن الذات في الأدب العربي القديم، الأمر الذي يدفعه إلى طرح أسئلة عما إذا وجدت السيرة الذاتية في التراث العربي القديم، وعن وجود وعي لدى العرب بقيمة التجربة الشخصية حتى تتحول إلى موضوع كتابة، وذلك بغية البحث عن تجربة الكتابة عن الذات، باعتبارها ممارسة خاصة لها دوافع محددة، تؤثر في تشكلها صياغة ومضموناً.

وفي معرض الإجابة عن الأسئلة، يعرض المؤلف آراء الباحثين والمفكرين الذين تناولوا بدايات السيرة الذاتية عند العرب، حيث رأى، فرانز روزنتال، بأن السيرة الذاتية العربية انقسمت إلى قسمين، السيرة الذاتية الروحية أو الدينية، وكانت بدايتها مع الحارث بن أسد المحاسبي، والسيرة الذاتية الدنيوية، وبدايتها في سيرة حنين بن إسحاق. بالمقابل، اعتبر أنور الجندي أن الإمام الغزالي هو أول من كتب سيرة ذاتية حقيقية، فيما اعتبر طه حسين أن ابن خلدون هو صاحب أول سيرة ذاتية.

ويشي التباين في الشكل والمضمون للسير الذاتية في التراث العربي، بأن بداياتها لم تخضع إلى نسق بنيوي محدد وصارم، بل تشكلت وفق الظروف التاريخية والتواصلية الخاصة التي استدعت الكتابة عن الذات عند كل كاتب، الأمر الذي يجسده وجود نماذج ترفع مقاصد التوجيه والاعتبار، وهي سير يغلب عليها الأسلوب التقريري المباشر، مثل سيرة الغزالي، وجوانب كثيرة من سيرة الشعراني، بينما هناك سير ذاتية يغلب عليها الوصف الأدبي، مثل سيرة الحكيم الترمذي، الذي ركز على وصف مشاعره وتقلبات نفسه، وما عاناه من ظلم مجتمعه له، وانعكاس كل ذلك على تجربته الشخصية التي انتصرت بالدعم الإلهي، وبالتالي فإن الكاتب العربي القديم عرف السيرة الذاتية، وتمثل خصائصها وشروطها، وإن كانت ممارسته لم تظهر بكثافة، وسبب ذلك راجع إلى طغيان السيرة الغيرية، باعتبارها أهم أشكال السير بروزاً، لما فيها من توافق مع القيم الأخلاقية التي تحفظ ترجمة الرجال بأقلام غيرهم بغية تجنيبهم "إثم" الحديث عن النفس، لذلك أُثير سؤال التفاضل بين السيرة الذاتية، والسيرة الغيرية، داخل الثقافة العربية القديمة، وعما إذا كان الإنسان يكتب عن نفسه، أم يترك شخصاً آخر يكتب عنه. وقد أسهم التصوف في ترسيخ ثقافة الكتابة عن الذات، وتوسيع مجالها ووظائفها، وباتت تشكل عنصراً هاماً من عناصر التلقين والتربية، ونقل العبر وتجارب المعلمين إلى المريدين.

 ويصنّف المؤلف السير الذاتية القديمة، اعتماداً على المضامين الغالبة، التي يختارها الكاتب من قصة حياته، وعلى مجال نبوغ أو بروز كاتب السيرة، ثم على قصده من كتابتها، ويجدها في ثلاث أنواع، أولها السيرة الذاتية الروحية، تلك التي تؤرخ التقلبات النفسية والروحية لأصحابها، ويجد نموذجها في "المنقذ من الضلال" لأبي حامد الغزالي، و"بدو شأن" للحكيم الترمذي، و"تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب" لعبد الله الترجمان، وثاني أنوع السيرة الذاتية هو السيرة الذاتية العلمية، ويتجسد نموذجها في سيرة ابن سينا، وعبد اللطيف بغدادي، وسيرة ابن خلدون، وسيرة حلال الدين السيوطي. أما ثالث أنواعها فهو السيرة الذاتية السياسية، وتجد نموذجها في سيرة هبة الله الشيرازي، وسيرة الأمير عبد الله بن بلقين، وسيرة عمارة بن أبي الحسن الحاكمي اليمني، وكتاب "الاعتبار" لأسامة بن منقذ.

 ويخلص المؤلف إلى أن دراسة السيرة الذاتية، بوصفها كتابة سردية، لا تفصل بين غاية هذا الجنس الأساسية، وهو تقديم الذات من خلال سرد محطات من التجربة الشخصية، والطموح التواصلي الذي يؤثر في شكل السيرة ومضامينها، إضافة إلى أن طبيعة السيرة الذاتية العربية لا تنفصل عن قصد بلاغي شامل، وهو صناعة النموذج المثالي، الذي يمثل الإنسان القدوة، الأمر الذي أثّر عميقاً على بنيتها، بوصفها سير احتفالية تروم بناء صورة نقية ومثالية عن شخصية كاتبها.