امرأة ترتدي زي الدفاع المدني السوري "الخوذ البيضاء"، تشقُّ طريقها بين مئات الرجال المدنيين الذين يراقبون ويتابعون بلهفةٍ حالة استجابةٍ، لإنقاذ وانتشال أحياء من تحت أنقاض الدمار، الذي خلّفه زلزال السادس من شباط/فبراير في شمال غربي سوريا. تتسلّم جسد طفل من زميلها المنقذ. تحضنه بين يديها وتلتفّ عائدة إلى سيارة الإسعاف، للمباشرة بعلاجه.
بدت الصورة غير مألوفة بعد سنوات طويلة من محاولات إقصاء المرأة عن العمل العام. محاولات مارستها الكثير من قوى الأمر الواقع التي تناوبت على المنطقة. لكن في حالتنا هنا، لم نلحظ أن أياً من الرجال الموجودين قد استنكر وجود هذه المرأة المتطوّعة، وسط هذا الحشد من الرجال. لم يتساءل أي أحد، ما الذي تفعله تلك المرأة هنا؟ والأغرب من ذلك أنه بدت على ملامحهم إشارات توحي بالإعجاب، وربما الفخر بشجاعتها وقوتها، لتوجد في هذا المكان خلال لحظات الخطر.
لم تكن تلك الصورة الوحيدة لمتطوعات "الخوذ البيضاء" خلال الأيام الماضية، فقد تكرر ظهور المتطوعات النساء في أكثر من مكان، مما يوحي بأن "الخوذ البيضاء" قد استعادت ووطّدت مساحة أمان لدور وعمل المرأة. ولم يكن أمراً بلا دلالة، أن نرى إحدى المتطوعات في صدر المشهد، تقف إلى جانب رائد الصالح مدير الدفاع المدني، وهو يتلو بيانه خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده في بلدة سرمدا، شمال غربي سوريا يوم العاشر من شباط/ فبراير، بعد أكثر من مئة ساعة على وقوع الكارثة.
تؤكد المدونة على اشتراط عدم انتساب متطوعيها لأي جهة سياسية، وحين كانت تكتشف عكس ذلك، كانت تتخذ الإجراء الإداري الواجب
وجود المرأة في مواقع الإنقاذ وفي المؤتمر الصحفي، بدا وكأنه تأكيد جديد أن منظمة "الخوذ البيضاء" أبقت على مسافة واقعية بينها وبين سلطات الأمر الواقع، ولم ترضخ لضغط المناخ العام التي حاولت تلك الجهات فرضه على النساء. والحقيقة أن المنظمة، لمن يعرفها من الداخل جيداً، وأنا ممن يدّعون ذلك، أبقت على مسافة حتى مع الجهات الداعمة، وحافظت على استقلالها، فلم تخضع لشروط أحد، سوى مدوّنة السلوك التي أقرّتها والتزمت بها منذ بداية تأسيسها عام 2013.
تؤكد المدونة على اشتراط عدم انتساب متطوعيها لأي جهة سياسية، وحين كانت تكتشف عكس ذلك، كانت تتخذ الإجراء الإداري الواجب. وإضافة إلى مراعاة المدونة لكل القوانين الدولية التي لا تجيز الانحياز في عمليات الاستجابة والإنقاذ، على أي أساس عرقي أو قومي أو ديني، فهي تؤكد على عدم استغلال مهام الإنقاذ لدعم موقف سياسي بعينه، والتأكيد على عدم العمل كأداة لأي طرف سياسي، أو لصالح أي أجندة لا تتماشى مع مهمة إنقاذ المدنيين. تعرضت المنظمة بسبب ذلك لحملات طويلة من التشويه، ليس من قبل نظام الأسد وروسيا فحسب، وهما من ذهبا إلى حد اتهام المنظمة بالإرهاب، وبالتبعية لتنظيم القاعدة، لكن أيضاً من الجهات العسكرية والسياسية السورية عندما لم تتناغم المنظمة مع توجهات تلك القوى.
خلال المؤتمر الصحفي في سرمدا بدا رائد الصالح "رجل دولة" في أقل توصيف ممكن. "أقدم اعتذاري وأسفي لكل من لم نستطع الوصول إلى أهله وذويه على قيد الحياة، في كل أنحاء سوريا. إن الألم يعتصر قلوبنا لمجرد التفكير في ذلك.." قال الرجل، ولم يستثنِ في بيانه المناطق المتضررة الخاضعة لنظام الأسد. "كنا نقاتل العجز ونحارب الزمن للوصول إليهم أحياء.. ولكننا نقسم لكم أننا عملنا وبذلنا قصارى جهدنا..". تلا الصالح بيانه بصوت يوحي بأن كل غصص الأرض كانت تتزاحم في حنجرته. صاغ كلمته بطريقة مسؤولة وبدون أية خفّةٍ، فبدا أن البيان صادر عن جهة جديرة بالتقدير فعلاً. لم يكن هذا بسبب شخصيته المميزة فقط، بل لأنه كان يمثل وينتمي لمنظمة كانت على قدر طموح السوريين وآمالهم.
لم يدّع البيان أية بطولات زائفة، بل وأكثر من ذلك، توجه بالشكر للسوريين والمجتمعات المحلية على دعم عمل "الخوذ البيضاء" بالمال والمعدات، وحتى بالمحروقات التي قطعوها عن عوائلهم، لتتمكن الآليات من الاستمرار بعمليات الإنقاذ. وكانت الكثير من التقارير الإخبارية تناولت مبادرة تقديم الآليات والمركبات الخاصة بدون مقابل للمساهمة في عمليات الإنقاذ. والأهم أن استمرار عمل المتطوعين في تلك الظروف الحساسة، مع نقص كبير في التمويل طال عموم منطقة شمال غربي سوريا في السنوات الأخيرة، كان منوطاً بالتبرعات الفردية والشخصية من سوريين وأفراد من مختلف أنحاء العالم خلال الكارثة.
مع قليل من التأمل في الأمر، يشعر المراقب أن فجيعة الزلزال قد كشفت عن كارثة أخرى كانت حاضرة خلال كل السنوات السابقة. فالاحترام والاحتضان الذي حازته "الخوذ البيضاء" في الأيام القليلة الماضية من السوريين، ومن دول العالم التي قدمت وعوداً بدعم مالي عاجل، كان بسبب أنها فعلت ما يمليه الضمير، وليس ما يمليه الداعم. والسؤال المرير هنا، ماذا لو أن الكيانات السياسية والعسكرية حافظت هي أيضاً، على تلك المسافة مع الداعمين، لتحوز قرارها وتبقى مستقلة تنفذ ما يمليه عليها الضمير السوري، وليس الدول المتحكّمة كما هو واقع الحال. لو فعلت ذلك، لما كنا اليوم في مكان ووضع أفضل فحسب، بل كنا رأينا العديد من الأمثلة عن مؤسسات وطنية سياسية أو عسكرية مستقلة، تدعو للفخر، وتحوز احترام بل ومحبة السوريين.
اللافت أيضاً، أن ما جرى خلال الأيام القليلة الماضية مسح وقوّض كل الجهد الإعلامي الذي عمل عليه أعداء السوريين. هنا أقصد نظام الأسد وروسيا تحديداً. حملاتٌ ممولة قادتها روسيا عبر الإعلام العالمي وعبر كتاب تدفع لهم، لتقول بأن "الخوذ البيضاء" منظمة إرهابية، وأنها من نفذت بالتعاون مع جهات خارجية، الهجومات الكيماوية في سوريا. قام نظام الأسد بذات الفعل، ولكن باحترافية أقل وابتذال أكثر. بلغ به الأمر أن وظّف الدراما للقول بأن الصور عن جهود الدفاع المدني وهم ينتشلون ضحايا قصفه مع شركائه، إنما هي مجرد حالات تمثيل وخداع. ضاع كل هذا الجهد للنظام وروسيا خلال أسبوع واحد فقط، مع الصورة ناصعة البياض التي ظهرت عليه المنظمة خلال سواد وقتامة مشهد الزلزال الكارثة.
استحقت تلك الخوذ ناصعة البياض هذا الاحتفاء المبهر بها، في لحظة إجماع سوريٍّ تكاد تكون نادرة
بقدر ما جاءت كارثة الزلزال كنكبة إضافية للسوريين، إلا أنها في جزء منها أظهرت حالة تعاطف عابرة لخطوط المواجهة. وأكثر من ذلك، ولجهة الخوذ البيضاء، فقد كان اختباراً نهائياً وحاسماً، لتبيان طبيعة المنظمة. "إن أنين الضحايا والعالقين تحت الأنقاض سيبقى في مسامعنا ما حيينا، لقد كان الضحايا يتلون وصاياهم لنا، ويرسلون مشاعر الفقد إلى ذويهم، وهم تحت الأنقاض قبل وفاتهم. إن هذه الرسائل ستبقى أمانة في أعناقنا". كانت تلك الكلمات المؤثرة ختام بيان الدفاع المدني، لتعلن المنظمة بعدها بأيام، الحداد الرسمي في كل أنحاء سوريا، الأمر الذي لم يقم به لا نظام الأسد ولا أي من هياكل المعارضة الكسيحة، مع قرار بتنكيس الأعلام في كافة مراكزه ونقاطه لمدة أسبوع، إضافة لإعلانه يوم السادس من شباط من كل عام يوم حداد وطني لتخليد ذكرى ضحايا الزلزال.
استحقت تلك الخوذ ناصعة البياض هذا الاحتفاء المبهر بها، في لحظة إجماع سوريٍّ تكاد تكون نادرة. صور المتطوعين تنتشر بكثافة عالية على وسائل التواصل والمواقع. ليس أولها صورة المتطوع حسن الطلفاح وهو يساهم في الإنقاذ، مع قدمه الصناعية، بعد أن فقد ساقه بانفجار قنبلة عنقودية أثناء تنفيذه لعملية إزالة الذخائر غير المنفجرة قبل سنوات، ولا آخرها صورة مجموعة من المتطوعات وهنَّ يقفن أمام قبر زميلتهنَّ المتطوعة فاطمة الحسن التي قضت مع عائلتها تحت الهدم في بلدة جنديرس، ويعتذرن لها عن تأخرهن بسبب الانشغال بإنقاذ ضحايا الكارثة. صورٌ تحاول أن ترمم الصدع الذي نعيش فوقه وفيهِ منذ سنوات طويلة.
أما أنا، فتحضرني اليوم صورة محببة لي شخصياً، أود أن أشارككم بها. صورةٌ مضى عليها عشر سنوات تماماً. متطوعون من الأوائل، قادمون من أنحاء سوريا إلى مدينة أضنة التركية، لحضور دورة تدريبية على مبادئ الإنقاذ الاحترافي. كان من بين أولئك فتاة وشاب تزوجا قبل أيام. حسب تعبيرهما الطريف، اعتبرا الدورة إجازة من القصف والدمار، لتكون بمثابة شهر عسل. في نهاية كل يوم كانا ينهيان التدريب معفري الوجه والثياب، يكسوهما التراب من رأسهما إلى أخمص القدمين. رغم ذلك، كانا يبتسمان للكاميرا ليخلدا ذكرى أغرب شهر عسل يمكن لعروسين أن يقضياه.