عن جيش ماركس وجيش الإسلام

2021.05.18 | 06:45 دمشق

maxresdefault.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يفاجئني ما قاله الشيخ معاذ الخطيب حول "جيش الإسلام"، واتهامه لبعض منتقدي ذلك الجيش بأن جذر انتقادهم له إنما مردّه للاسم فقط، ولو كان اسمه "جيش ماركس" لما انتقدوه، وفي هذا التخصيص ما هو مضمر لكنه شديد الوضوح، فالشيخ معاذ يضع في قوله هذا كل من وقف ضد أسلمة الثورة، وإلباسها ثوب الإسلام في موقف المعادي للإسلام.

تمنيت سابقاً على الشيخ معاذ أن يكون أكثر حصافة في إصراره على توليفة عجيبة بين خطاب المشيخة وخطاب السياسة، وخطاب المعارضة، وكي لا أفهم خطأ فأنا لا أقول باستحالة جمع هذه التوليفة معا، فقد يمكن جمعها بصعوبة بالغة، لكن الاستحالة تأتي من فقد حاملها لضرورة ترتيب أولوياتها.

ارتكب الشيخ معاذ أول أخطائه عندما قبل أن يترأس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وهو الذي قال عن نفسه إنه لا يحب السياسة، ولا السياسيين، فما الذي دفعه إذا للقبول برئاسة جسد سياسي مفخخ بألغام عديدة، تحاول دول عديدة السيطرة عليه. ثم أخطأ ثانية خلال إدارته لهذا الائتلاف عندما راح ينأى بنفسه عن الصراعات التي بدأت تعصف بالائتلاف بترفع مفضلا أن يبدو كبيرا أمام صغائر ترتكبها اصطفافات متباينة داخل جسد الائتلاف، على أن يسعى بكل ما يستطيع لجعل هذا الجسد قادرا على الفعل وعلى تلبية متطلبات المرحلة الخطيرة التي تمر بها سوريا، ثم أخطأ عندما ظن أنه قادر على أن يشكل مع مريديه جسدا سياسيا لم يقدم للسوريين سوى مبادرات لا تسمن ولا تغني من جوع. 

 لم تحصل شخصية في المعارضة السورية على الظروف والدعم والممكنات للفعل كما امتلك الشيخ معاذ

تسببت فترة رئاسة الشيخ معاذ للائتلاف بمفاقمة المشاكل داخل هذا الجسد الوليد، وربما كان تداركها في البدايات - أي في فترة رئاسته - أسهل منه كثيرا فيما بعد، فقد قام الشيخ معاذ بترك المرض ليستفحل، وتزداد صعوبة معالجته.

لم تحصل شخصية في المعارضة السورية على الظروف والدعم والممكنات للفعل كما امتلك الشيخ معاذ، فقد كان الائتلاف في بداياته، وكان جسدا يمكن الرهان عليه للعب دور فاعل في الحدث السوري، سواء من حيث عدد الدول المعترفة به، أو من حيث الإمكانات والدعم المقدم له، أو من حيث القبول الواسع الذي كان يحظى به الائتلاف من قبل السوريين، وكل هذا أهدره الشيخ معاذ ببراعة فائقة، ولم تتوفر هذه الظروف لاحقا لمن جاء بعده في موقع رئاسة الائتلاف. 

في لقائه الأخير مع تلفزيون سوريا ركز الشيخ معاذ على أهمية الديناميكية العالية التي يجب أن يتصف بها من يتصدرون الشأن العام في سوريا، فالوضع السوري شديد التعقيد، والضعف السوري أمام القوى الفاعلة في الشأن السوري بالغ ويدعو للحزن، وهذا يحتم على السوريين فهم التقاطعات والتناقضات بين القوى الفاعلة، ويحتم عليهم التعاطي بمرونة ومسؤولية مع هذه التناقضات والتقاطعات، وأكد أيضا أنه شديد الزهد بأي موقع له في مستقبل سوريا، وأن هاجسه الأول والأخير هو سوريا وشعبها وخلاصها.

ورغم أنني أتفق مع الشيخ معاذ في أن حاجة نخب السوريين للديناميكية الخلاقة والمبدعة هي حاجة ملحة، وأنني أصدقه في زهده بالمواقع والمناصب، وقبوله للمسؤولية، إلا أنني وبكل احترام له أسأله:

 ألم يحن الوقت لكي يقيّم رجال الدين في سوريا نتائج تدخل الإسلاميين في العمل السياسي والعسكري للثورة السورية بصراحة وجرأة ومسؤولية؟

وهل يكفي الحديث العاطفي عن وحدة السوريين وهويتهم الجامعة، لجسر الهوة العميقة التي اشتغل عليها بمنهجية وتعمد حكم عائلة الأسد، أم أننا بحاجة فعلا لخطاب يحدد بوضوح وبجرأة علاقة الدولة بالإسلام؟

المشكلة التي تعصف بـ "وجهاء" النخب السورية كلهم (بما فيهم الشيخ معاذ) تتلخص في التناقض الصارخ بين حديثهم جميعا عن ضرورة المراجعة النقدية والمسؤولة للحدث السوري، ومطالبتهم بالديناميكية في فهم الواقع. وبين تمسكهم الشديد بمقولات مقدسة لا تقبل النقاش، وفي تمترسهم خلف منهجية صارمة عند مقاربة الحدث السوري، منهجية لا تحددها الحاجة والوقائع والتطورات، بل تحددها ذاتهم، وانتماءاتهم الأخرى، وما يحملوه من أفكار ومقولات صاغتها مراحل وبيئات وظروف سابقة، وكانت بمعظمها مرتكزة على إيديولوجيات، فتصلبت وأصبحت عصية على التكيف. 

طوال سنوات الثورة التي خاض غمارها الشعب السوري، والتي أعطت السوريين عموما و"نخبهم" خصوصا تجارب غنية، ودروس لو استفادوا منها لما كان وضعنا على ما هو عليه الآن، على العكس من ذلك، فقد استمرت النخب في ممارسة ما كانت تمارسه في اليوم الأول من الثورة، ولم تزل قناعة كل فرد في هذه النخب أنه مالك الحقيقة، وأن الآخرين على ضلال.

حتى في المحاولات القليلة لبعض هؤلاء "النخب" في نقد التجربة، يغيب النقد، وتغيب المسؤولية التي يجب أن تكون هاجسهم في نقدهم، وتحضر الذات المتضخمة، الساعية لتبرئة نفسها، وتحميل الآخرين والظروف مسؤولية كل الهزائم والإحباطات والأخطاء الفادحة.

من يتابع تداعيات الثورة السورية على السوريين لابد أن يلاحظ أن الديناميكية التي تفرضها الوقائع، وانكشاف الحقائق، كانت غائبة عن متصدري الثورة، "وقادتها" بينما كان السوريون العاديون أكثر قدرة على التغير، وأكثر مرونة في فهم المتغيرات، وغيروا من آرائهم، وللوهلة الأولى قد يبدو هذا طبيعيا، فالمثقفون - كما هو مفترض- يقفون على أرض أكثر صلابة في قراءة ما يحدث مقارنة بالإنسان العادي، وبالتالي هم أقل عرضة لتغيرات مفاجئة أو نوعية، لكن ما هو غير طبيعي أن يتشبث هؤلاء المثقفون بمواقفهم التي أصبح النقاش في خطأها منتهياً، وأن يكون هاجسهم هو تبريرها وليس نقدها.

أهم ما تحتاجه الثورة السورية اليوم، وما يحتاجه السوريون كلهم هو أولا الشجاعة في الجهر بالحقيقة المغيبة عمدا

لو لم يكن الشعب السوري كله، محاصرا بكل أنواع الحصار، بدءا من لقمة الخبز، والفقر والتشرد، مرورا بالتعتيم والإهمال، وصولا إلى القتل والسجن والتعذيب لما كان لمن يتصدرون الثورة أي مكان فيها، ولما كان لمن يتصدرون ما يسمى الموالاة أيضا أي دور في قيادة سوريا، لكنها اللعبة التي زُجَّ فيها السوريون عنوة، إذ قُيدت أيديهم ونُصِّب عليهم من لا يمثلهم، ولا يستطيعون تبديله، سواء في جهة المعارضة أو في جهة الموالاة.

لعل أهم ما تحتاجه الثورة السورية اليوم، وما يحتاجه السوريون كلهم هو أولا الشجاعة في الجهر بالحقيقة المغيبة عمدا، مهما تكن هذه الحقيقة قاسية، وثانياً وعي المسؤولية التي تفرضها المرحلة الحرجة من تاريخ سوريا، والتي تفتح الباب واسعاً أمام احتمالات بالغة السوء من بينها موت سوريا.

هي لحظة لإنقاذ الوطن، وليست لحظة لتبرئة الذات، فلا معنى لذات بريئة حين يموت الوطن.