عن تفاهة الشرّ

2019.09.14 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

"النظام االشُّمُوليّ هو أسوأ ما أنجبته البشرية، إنه التجسيدُ الأقبح لتفاهة الشرّ". تتميّز أعمال الـمُنظِّرة السياسية الألمانية حنّة آرنت (1906-1975) بالجِدّة والجرأة والثورية، كما تتميّز بأنها تتكامل مع بعضها بعضاً لتشكّل منظومةً واحدة متقنةَ البناء. فمِن "في الثورة" إلى "أسُس التوتاليتارية" إلى "أيخمان في القدس" إلى "في العنف"... لم تترك آرنت قضيةً مهمة من قضايا عصرها إلا ودرستْها وكتبتْ عنها، وقد كانت غايتُها الأولى والأخيرة من ذلك هي الفهم، وليس اتّخاذَ موقف مؤيّد أو معارض من القضيّة أو الحدث أو الظاهرة.

ففي دراستها للعنف على سبيل المثال، ترفضُ آرنت أن يكون للعنف أيُّ أسباب ميتافيزيقية ترتبط بالدِّين والغيبيّات. كما ترفض اعتبار العنف سلوكاً حيوانياً يتمظهر عبر السلوك البشري، فالحيوانات لا تفعل ذلك. ثم ترفض أن يكون العنف جذرياً في الإنسان، بل هو سطحيّ مُكتَسَب، والخير هو الجذريّ. العنف عند آرنت سلوكٌ بشريّ محض، يمارسه الشخص بقرارٍ واعٍ، فيتجرّد عِـبْـرَ ممارسته من شَرطه الإنساني، ويصبح وحشاً. وهو أمرٌ يستطيع أي شخص أن يفعله لو أراد ذلك، وبسهولة، على عكس الخير والأعمال العظيمة، فهي ليست سهلةً ولا في متناول الجميع. لكن ما دور النظام الشمولي في ذلك؟

ترى آرنت أن العنف والسياسة نقيضان لا يجتمعان، وأنّ الأنظمة الشمولية التي يتماهى فيها الحزب الحاكم مع مؤسسات الدولة مع الجيش الوطني مع شخص الديكتاتور...؛ هي أنظمة قائمة على العنف

ترى آرنت أن العنف والسياسة نقيضان لا يجتمعان، وأنّ الأنظمة الشمولية التي يتماهى فيها الحزب الحاكم مع مؤسسات الدولة مع الجيش الوطني مع شخص الديكتاتور...؛ هي أنظمة قائمة على العنف والإقصاء والإلغاء بطبيعتها، وانتشارُ العنف يعني انحسار السياسة، ومن ثمّ انقراضها. في هذا النوع من الأنظمة يصبح البشرُ غير قادرين على التفكير، غير قادرين على تمييز الخطأ من الصواب، لأن السلطة الحاكمة هي التي تفكّر عنهم، وهي التي تسلُبهم مَلَكَة الشكّ والنقد حتى بينهم وبين أنفسهم. تقول آرنت: "الجحيم ليس هو الآخرون. الجحيم هو انقطاعُ الصلات مع الآخرين، وانقطاعُ الصلات بين الإنسان وذاته".

بعد أن يقوم النظام الشمولي بجعل الأفراد غير قادرين على التفكير، يصبح الإنسانُ مُسَيّراً من قِبَل النظام لا مُخيَّـراً، ينفّذ الأوامر ولا يحقّ له أن يعترض. وهكذا يصبح مثل حلقة في سلسلة طويلة، أو مثل برغيّ في آلةٍ ضخمة هي النظام الشمولي. وفي هذا النظام يكون المرءُ قريباً جداً من العنف، وبعيداً كلَّ البُعد عن السياسة. وبالتالي فهو لا يحتاج سوى أنْ يرتكب جريمته الأولى، فيفقدُ بها شَرْطه الإنساني، ويتحوّل بعدَها إلى مجرمٍ يعذّبُ ويقتلُ ويُبيدُ آلافَ البشر من دون أن يهتـزَّ لهُ رمش.

كانت فلسفةُ آرنت مرتبطة أشدّ الارتباط بظروف حياتها وتقلُّباتها، فهي الفتاة اليهودية التي عايشت واحداً من أبشع الأنظمة الشمولية في التاريخ، النظام النازيّ في عهد هتلر، ثم هربتْ من قبضته بأعجوبة، تاركةً وراء ظهرها قصّة حبّ مع أستاذها الفيلسوف هايدغر. وصولاً إلى إقامتها في الولايات المتحدة، وتحديداً في عام 1961 حين طلبت منها مجلة "نيويوركر" أنْ تسافر إلى فلسطين المحتلّة من أجل القيام بالتغطية الصحافية لمحاكمة أدولف أيخمان. وبسبب هذه التجربة وكنتيجةٍ لها، وضعتْ آرنت نظريّتها في تفاهة الشرّ.

أيخمان، وهو ضابط سابق في جهاز الشرطة السرية (الغيستابو) في عهد هتلر، كان مسؤولاً عن عمليات ترحيل اليهود من مراكز الاعتقال إلى معسكرات الإبادة النازية، ولا سيّما معسكر "أوشفايتز" سيّء الصيت. وبعد سقوط النظام النازي، هربَ أيخمان واختفى، ثم عثرَ الموسادُ الإسرائيلي عليه متنكّراً في الأرجنتين، فاختطفوه واقتادوه إلى قفص المحاكمة في القدس المحتلّة. وهناك؛ كان موقف حنّة آرنت من محاكمة آيخمان مختلفاً ومناقضاً لموقف معظم اليهود في العالم، فحُوربتْ من قِبَل أبناء جلدتها حرباً شعواء، واتُّهمت بالعمالة للنازية.

رأتْ آرنت أن محاكمة "أيخمان" غير عادلة، وأنّ محاكمة النظام النازي لا تتحقّق عن طريق محاكمة أيخمان. تقول -ما معناه- أنتُم تريدون محاكمة "أيخمان" الضابط النازيّ، لكنّ هذا الرجل الواقف في قفص المحاكمة هو شخص غيره، فهذا الـ "أيخمان" غيرُ حاقد على اليهود، وليس لديه أي موقف سلبي أو إيجابي تجاههم. كما أنه ليس شريراً وليس طيّباً، بل هو مجرّد تافه، وشرُّهُ أتفهُ منه.  هذا الشخص لا يستطيع أن يتحمّل مسؤولية جرائم النازية، فهو شخص غير قادر على التفكير أصلاً، هو مجرّد حلقة في سلسلة أو برغيّ في آلة ضخمة. صحيح أنه يتحمّل مسؤولية تخلّيه عن شرطه الإنسانيّ، لكنه تافه وسطحيّ ولا يتحمّل ذلك التاريخ كلّه.

كانت فلسفةُ آرنت مرتبطة أشدّ الارتباط بظروف حياتها وتقلُّباتها، فهي الفتاة اليهودية التي عايشت واحداً من أبشع الأنظمة الشمولية في التاريخ

لاحظتْ "آرنت" أن اللغة التي يتحدّث بها "أيخمان" ليست لغة سياسية أو عسكرية، بل هي لغة إدارية بيروقراطية، فهو مجرّد موظف تأتيه الأوامر وينفّذها. وأنّ شَرَّه سطحيٌّ وتافه مثله، ومرتبطٌ بالظروف التي وجد نفسَه فيها، أو بالأحرى الظروف التي وضعَه النظامُ الشُّمُولي فيها.

إن الدروس التي نتعلُّمها من آرنت، والتي دفعتْني إلى كتابة هذا المقال؛ ثلاثة. الأوّل هو أن يقول المثقفُ رأيه وقناعته مهما بلغَ الثمن، ولو أدّى ذلك إلى قيامة البشرية ضدّه. الدرس الثاني هو أن العدالة فوق السياسة، فمهما كانت الخصومةُ السياسية حادّةً بين يهوديّة وضابطٍ نازيّ، لا ينبغي الدَّوسُ على مبادئ العدالة بسبب الخلاف السياسيّ. الدرس الثالث هو أنّ جميع الطغاة العرب وأمراء الحرب وقادة الميليشيات... هم مجرّدُ نَكِرَات تافهين، تخلَّوا عن شَرطهم الإنسانيّ عند ارتكابهم للجريمة الأولى، فتحوُّلوا إلى وحُوشٍ تقتل دون ضمير أو حياء. ويمكن لأيّ شخص أنْ يصير طاغيةً أو سفّاحاً أو إرهابياً لو أراد، فهذا ليس بالأمر الصعب أو العظيم، الصعبُ والعظيم هو أنْ تكون إنساناً خيّـراً ومبدعاً ومفكّراً وبنّاءً للمجتمع. إنّ هؤلاء الطغاة الذين نصنعُ لهم التماثيل ونضربُ لهم التحية، هم مجرّدُ نَكِرَاتٍ توافه صنعَتْـهم السلطةُ والظروفُ الاستثنائية، وما إنْ تجرّدهم من السلطة حتى تكشفَ عن حقيقتهم الوضيعة، إذ هم لا يصلُحون لجرّ عربة خُضَار في أحسن الأحوال.

 

كلمات مفتاحية