عن الولاءات اللاوطنيّة المتفاقمة والمتضاربة في سوريا

2019.10.15 | 17:14 دمشق

7fcef492-d3d5-44aa-842f-bae126e09c77.jpg
+A
حجم الخط
-A

مفهوم الوطنيّة السوريّة، لم يدخل طور التكوين والتبلور والنضوج، وبقي رهين التنظيرات السياسيّة والثقافيّة، على اختلاف مشاربها وخلفيّاتها، منذ استقلال سوريا عن فرنسا وحتى هذه اللحظة.

في مطلع الخمسينات وحتّى منتصفها، بدأ ما يشبه الإرهاصات الأولى أو محاولات التمهيد لصوغ وطنيّة سوريّة، معبّرةً عن نفسها في التعدديّة السياسيّة وهامش من حريّة الصحافة المتاح وقتذاك، حتّى مع وجود عبث العسكر وانقلاباتهم. إلاّ أن المشروع القومي الناصري + البعثي أطاح بتلك البشائر أو البوادر، وأدخل البلد تحت قبضة وسطوة أهزوجة الشعب الواحد، والزعيم الواحد الأوحد، والحزب الواحد الأوحد، ما أدى إلى الشقاق والانقلاب على دولة جمال عبد الناصر ومشروعه القومي الوحدودي القسري، أيضاً من قبل العسكر ذوي النزعة والخلفيّة القوميّة.

أتى حزب البعث سنة 1963 للحكم، وأطاح بالمتبقي من حقبة الخمسينات، ثم أدخل البلاد في صراع داخلي حزبي بعثي – بعثي، أفضت إلى انشقاق وانقلاب 1966، الذي مهّد بدوره لهزيمة 1967. لم يتعظ نظام البعث من هزيمة 1967، وزاد من حجم الأزمة الداخليّة والاحتراب الداخلي الحزبي، ما أدّى إلى حدوث انقلاب جديد من قبل حافظ الأسد وبعض المتعاونين معه على قيادة البعث، والزجّ برئيس الجمهوريّة نورالدين الأتاسي وبالجنرال صلاح جديد في السجون سنة 1970! وزاد الأسد من سعير قبضته الأمنيّة وحديدها ونارها على السوريين، والرفع من مستوى القمع والاضطهاد الوطني للمواطنين السوريين بشكل عام، إلاّ أنه زاد من جرعة الاضطهاد القومي على الشعب الكردي، عبر الاستمرار في تطبيق المشاريع العنصريّة بحقهم، كمشاريع الإحصاء والتجريد من الجنسيّة، ثم مشروع التعريب ومنع وحظر اللغة والثقافة الكرديّة، واعتقال الناشطين والقيادات السياسيّة الكرديّة...إلخ. 

أصبح مستقبل الوطن السوري والوطنيّة السوريّة مع استمرار نظام الأسد حقل ألغام موقوتة قابلة للانفجار مع أيّ شرارة

أتت مذبحة مدرسة المدفعيّة، لتكون فاتحة حمامات الدم في الصراع الإخواني – الأسدي على السلطة، وما صاحب ذلك من شحن وحقن طائفي من الطرفين شديد التوتّر والدمويّة، ليزيد من تمزّق النسيج الاجتماعي السوري والوطنيّة السوريّة المفترضة أصلاً، وغرس الأحقاد والضغائن والثارات التاريخيّة بين مكوّنات الشعب السوري، خاصّة بعد مذبحة حماة، في شباط 1982، وما تلتها من جرائم اغتيال متبادلة، بحيث أصبح مستقبل الوطن السوري والوطنيّة السوريّة، مع استمرار نظام الأسد، حقل ألغام موقوتة، قابلة للانفجار مع أيّ شرارة.

منذ مطلع الستينات، كانت التهمة اللاحقة بالكرد السوريين المطالبين بحقوقهم القوميّة والثقافيّة والسياسيّة، على أنهم "انفصاليون، يريدون اقتطاع جزء من سوريا وإلحاقه ببلد أجنبي". وعليه، فهم عديمو الانتماء إلى سوريا، ومطعون في وطنيتهم، بحسب تلك التهم البعثيّة - الأمنيّة! تلك التهمة التي بموجبها سطّرت المحاكم العسكريّة ومحكمة أمن الدولة أحكامها بحق الكرد، انتقلت من الخطاب الرسمي إلى خطاب معارضة النظام أيضاً.

وفي أوّل اختبار للمعارضة، انحازت لموقف النظام وخطابه، إبان أحداث انتفاضة القامشلي في آذار 2004. وكان ذلك الموقف من نظام الأسد ومعارضته حيال القضيّة الكرديّة، مصحوباً بتنظيرات ودروس في الوطنيّة السوريّة ودولة المواطنة والمؤسسات، على اعتبار أن أصحابها ناجزون ومشبعون بالوطنيّة السوريّة وهم بناتها وأبناؤها ومنتجوها النجباء، ولا ينطبق عليهم القول الدارج: "فاقد الشيء لا يعطيه"! لكن تلك التنظيرات غير المقرونة بالتراكم في السلوك والممارسة العمليّة، لدى النظام ومعارضته، بقيت حبيسة الخطابات والمزايدات السياسيّة والثقافيّة، وضرباً من ضروب الترف التنظيري المزايداتي. وفي كل أزمة بين الكرد والنظام أو الكرد والمعارضة، كان يتمّ اللجوء سريعاً إلى خزانة التهم السابقة المشتركة بين النظام والمعارضة ووصف الكرد بـ"الانفصاليين، الخونة، العملاء، إسرائيل ثانية..." إلى آخر هذه المتوالية من التهم!

اندلعت الثورة الانتفاضة الشعبيّة على نظام الأسد الابن في آذار 2011، وانتعشت معها آمال واحتمالات طيّ صفحة البعث وتركته البغيضة من الأحقاد والضغائن والطائفيّة والعنصريّة والفاشيّة الحزبيّة والعائليّة. ولكن مع دخول الإخوان على الخطّ، والتورّط التركي والخليجي وتلويثهما الثورة بالمال والسلاح والشعارات وشراء الولاءات والذمم، (وهذه كانت ضالّة نظام الأسد التي يبحث عنها، بهدف حرف الثورة عن أهدافها ومسارها في تحقيق الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطيّة والدولة الوطنيّة)، بحيث أصبح الأمر محض حربٍ أهليّة ذات طابع ديني طائفي. ومع دخول تركيا على خط السيطرة على بعض الأراضي السوريّة، إلى جانب الاحتلال الروسي والإيراني والأمريكي، ومساندة فصائل المعارضة السوريّة لسيطرة تركيا على عفرين وريف حلب وإدلب، ثم الهجوم على مناطق شرق الفرات، كل ذلك كان من شأنه إفساح المجال أمام احتمالات نقل الحرب الأهليّة في سوريا إلى الطور القومي والعرقي (الكردي – العربي). وحتى لو عاد الجيش التركي إلى ثكناته خلف الحدود، داخل الأراضي التركيّة، (وهناك خشية من عدم عودته، وتكرار سيناريو شمال قبرص أو سيناريو لواء إسكندرونة، بالرغم من شيوع أخبار الاتفاق بين قوات قسد ونظام الأسد) إلاّ أن التدخّل التركي سيخلّف خلفه أحقاداً وثارات عميقة بين الكرد والعرب، عجز نظام الأسد الأب والابن عن فعلها وإذكائها، طيلة ما يقارب نصف قرن.

والحقّ أن كل التيّارات السياسيّة السوريّة، عربيّة منها وكرديّة، تتبادل الاتهامات بخصوص الطعن في الانتماء الوطني والقصور في الوطنيّة أو انعدامها أيضاً، وأن ولاء كل فريق عابر للحدود، لجهة أو نظام أو دولة أخرى. وهذا صحيح، بل هو أبرز المشتركات بين القوى السياسيّة في سوريا، سواء النظام الحاكم أو معارضته. ومع ذلك، كل طرف يزايد على الطرف الآخر، وينصّب نفسه مرجعيّة وبوصلة في الوطنيّة الخالصة الناجزة، وينفي ذلك عن الطرف الآخر. وبنظرة فاحصة إلى التيّارات الكرديّة في سوريا، نجدها منقسمة على الولاء إمّا لقيادة كردستان العراق أو لحزب العمال الكردستاني (التركي). كذلك الأحزاب الشيوعيّة واليساريّة كان ولاؤها للاتحاد السوفياتي السابق، وتحوّل إلى روسيا الاتحاديّة (الرأسماليّة)، حتّى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكيّة. في حين أن الأحزاب الناصريّة، كان ولاؤها لمصر الناصريّة، ولم يتحوّل هذا الولاء حتى بعد موت عبد الناصر ومجيء السادات ثم مبارك، وطي صفحة الناصريّة نهائيّاً في مصر على الصعيد السياسي، وبقاء عبد الناصر فقط ضمن الذاكرة والمناسبات القوميّة السنويّة لزوم الفلكلور السياسي.

جماعة الإخوان المسلمين كان وسيبقى ولاؤها للتنظيم الدولي للإخوان، ومنذ استلام حزب العدالة والتنمية الإسلامي المحافظ الحكم في تركيا سنة 2002 اقترن ولاء جماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي للتنظيم الدولي بالولاء لتركيا، في ما يشبه ولاءات الأحزاب الشيوعيّة في العالم العربي للاتحاد السوفياتي السابق. أمّا نظام الأسد، فيحمل ولاءاً مركبّاً، ذي منحيين؛ الأوّل ديني طائفي، لإيران، وسياسي عسكري، لروسيا.

قصارى القول: صحيح أن سوريا تعيش حالة حرب أهليّة مركّبة، وتخضع لاحتلالات متعددة الجنسيّة، فاقمت العداوات والأحقاد والثارات الداخليّة الأهليّة، لكن الصحيح أيضاً أنه وسط هذه الولاءات اللاوطنيّة المتشابكة والمشتبكة والمتضاربة والمتحاربة، عن أيّة وطنيّة سوريّة يمكننا التحدّث؟! وأيّة جهة سوريّة يمكنها أن تنتحل دور ووظيفة الأستاذ في الوطنيّة وتعطي الدروس والعظات والأفكار والمشاريع لبقيّة الفرقاء والأطراف السوريّة الأخرى باعتبارهم "تلاميذ" أو ناقصي أهليّة في الوطنيّة السوريّة؟!