عن العائلة الأبدية والجيش المقدس

2022.02.08 | 05:59 دمشق

1611211845.jpg
+A
حجم الخط
-A

 لم يقل "عباس النوري" في مقابلته كفراً، حين تحدث بشكل عام عن خطر الأنظمة العسكرية على الديمقراطية وعلى المجتمع، ولم يأتِ بجديد، فلماذا وصل الأمر إلى تهديده بحياته وحياة عائلته؟ واضطره الأمر إلى الاعتذار من جحافل مسعورة، لا يعرف معظمها معنى الدولة ووظيفتها وحقيقة علاقتها بالمواطن، ولماذا كلّما اقترب أحد من مقام الرئاسة أو من الجيش تتصدى له على الفور مئات الأصوات المهددة، والمخوّنة، والمطالبة بمحاكمته وحتى إعدامه؟

منذ أن انفجرت الثورة السورية في 2011م، كان هناك توجه واضح في كافة وسائل الإعلام السوري، وفي أذرعه المنتشرة داخل شبكة الإنترنت، وعبر أجهزته الأمنية، على ترسيخ مقدسَين لا يسمح بالاقتراب منهما: عائلة الأسد، والجيش السوري. وأصبحت لازمة إعلان الولاء لهما، واعتبارهما جوهر الانتماء للوطن، ضرورة واجبة على كل متحدث بالشأن العام، حتى لو كان ممن يصنفون على أنهم من المعارضة.

على الرغم من أن المادة الثامنة "سيئة الذكر" في الدستور السوري، الذي صاغه حافظ الأسد 1973 تنص على أن:
"حزب البعث العربي الاشتراكي، هو الحزب القائد للدولة والمجتمع، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب، ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية" والتي شكّلت الغطاء الدستوري لمهزلة "الأبد" الأسدي، وجعلت من حزب البعث المعني أولاً في قيادة سوريا، إلا أن أحداً لم يهتم بهذا الحزب الذي قُدر عدد أعضائه بالمليونين ونصف مليون عند انفجار الثورة، ولم تكلف عائلة الأسد نفسها عناء دعوته لمؤتمر استثنائي إلا بعد ست سنوات، لتدارس المرحلة الخطيرة في تاريخ سوريا، ولم تضمه إلى قائمة المقدسات التي لا يجوز المساس بها، لا بل جعلت من ميليشيات تشكّلت من قطاع طرق، ولصوص، ومرتزقة مثل "كتائب الدفاع الوطني" وغيرها، أكثر أهمية منه.

كان لتقديس العائلة والجيش هدف أساسي، هو إبعادهما كطرفين رئيسين يتحملان كامل المسؤولية عن تدمير سوريا

بوضوح أدار بشار الأسد ظهره لكل اعتبارات الوطن والدولة والحزب، وكثّف معادلة الصراع في سوريا بين طرفين، الطرف الأول وهو "المقدسان" عائلته بصفتها المالك الحصري لكرسي الحكم في سوريا، والجيش وما يتبع له بصفته جيش العائلة وقوتها الضاربة، والطرف الثاني هو الشعب السوري الذي يريد إنهاء تحكم عائلة الأسد بحياته ومستقبله.

كان لتقديس العائلة والجيش هدف أساسي، هو إبعادهما كطرفين رئيسين يتحملان كامل المسؤولية عن تدمير سوريا، وعن الكارثة التي ألّمت بها من دائرة الاتهام، أو دائرة المساءلة، أو حتى وضعهما في دائرة النقاش بين السوريين، وكان وضعهما في موقع المساءلة والاتهام سيفتح الباب أمام السوريين لإعادة فهم دور الدولة ومؤسساتها، وفهم أسباب الصراع، وربما الذهاب إلى حلول لا تتناسب مع رؤية بشار الأسد ومن حوله لعلاقة الدولة ومؤسساتها بالنظام.

منذ اللحظة الأولى التي غادر فيها الجيش السوري ثكناته ومواقعه متوجهاً لقمع الشعب السوري، فقد صفته كجيش وطني، وأصبح جيش الطاغية، هذا لا يعني عدم التمييز دائما بين قيادات هذا الجيش وبين أفراده الخاضعين لتراتبية صارمة أوصل عصيان أوامرها عددا من أفراده إلى الإعدام ميدانياً، باختصار لم تعد وظيفة هذا الجيش كما يحددها القانون والدستور، بل أصبحت وظيفته حماية الطاغية، ولا تبخل وقائع السنوات العشر الماضية بتقديم آلاف الدلائل عن لا وطنية هذا الجيش، وعن دوره الإجرامي في قتل السوريين، وتهجيرهم، وتدمير ممتلكاتهم وتعفيش بيوتهم..الخ.

لم يخسر الجيش السوري صفته كجيش وطني منذ بداية الثورة السورية فقط، لقد بدأ بفقدها منذ زمن طويل، منذ أن أصبح كبار ضباطه تجارا للمخدرات ولمزارع الحشيش في لبنان بعد التدخل السوري، ومنذ أن قبل قادته بمنظر جنودهم القادمين من لبنان، وهم يبيعون بضائعهم المهرّبة أو المسروقة من لبنان على أرصفة شوارع دمشق، ومنذ أن اجتاحت دبابات هذا الجيش مدينة حماة، لترتكب أبشع المجازر بحق مدنيين سوريين عزل، والأخطر من كل هذا هو إرغام ضباطه وأفراده على الامتثال والخضوع لضباط دول أخرى، دول تحتل سوريا، أي عار أكبر من هذا يمكن أن يلحقه قائد بجيشه؟!

كيف يمكن لضابط يسرق طعام جنوده - القليل أصلاً - أن يقود معركة من أجل وطن، وكيف يمكن لقائد قطعة عسكرية أن يكون وطنياً عندما يتباهى بالكتابة على جدران سور قطعته العسكرية (الأسد أو نحرق البلد)، كيف يمكن لجندي يرشي قائده من أجل إجازة، أو يفرزه قائده للعمل في مزرعته أو مشاريعه أن يحترم مؤسسة وطنية كمؤسسة الجيش، كيف يُقَدس جيش يقوده شخص تابع لدولة خارجية، ويقود أكبر فرقة فيه شخص تابع لدولة خارجية أخرى، ويمتهن تجارة المخدرات.. وكيف وكيف؟

لم يكن لسرايا الدفاع التي قادها رفعت الأسد وكانت أقوى وحدات الجيش السوري أي وظيفة وطنية، بل كان دورها الأهم هو حماية عائلة الأسد

لم يتحطم الجيش السوري بمعركة عسكرية مع عدو خارجي، ولم يتحول من مؤسسة وطنية قادرة على حماية سوريا والسوريين، إلى مؤسسة للفساد والمحسوبيات الطائفية، إلا بعد وصول عائلة الأسد إلى موقع السلطة، ولم يكن لسرايا الدفاع التي قادها رفعت الأسد وكانت أقوى وحدات الجيش السوري أي وظيفة وطنية، بل كان دورها الأهم هو حماية عائلة الأسد، وتحطيم فكرة الجيش الوطني الواحد، وزرع الطائفية داخل جسد المؤسسة العسكرية، وإنهاء حضور الواجب الوطني في أذهان أفراد هذه المؤسسة، تمهيدا لتحويل وظيفتها من حماية الوطن والشعب، إلى حماية السلطة والعائلة.

لماذا يُحاكم ويُتهم ويخون من يكشف حقيقة ما صار إليه الجيش السوري؟ ولماذا يمنع الحديث عن تفشي الطائفية والفساد والارتزاق في صفوفه؟ ولماذا تحطمت بقية الروح الوطنية في أفراده الذين يصرون على أن يكونوا جنودا للوطن وليس للعائلة؟ ولماذا يجبر السوريون على تقديس من قتلهم ودمّر بيوتهم، و"عفش" محتوياتها، وإلى متى سيرغم السوريون على ابتلاع الحقيقة، وقول ما يعرفون كلهم أنه كذب واضح وصفيق؟