عن السياسة والقهوة

2020.07.22 | 00:14 دمشق

damascusoldrestaurants_main2_696083.jpg
+A
حجم الخط
-A

السياسة التي يتعارف عليها الناس اليوم، ويراقبون مجرياتها عبر الإنترنت والشاشات، لم تكن تشبه واقعها من قبل، يوم كانت السياسة جزءاً لا يتجزأ من ثقافة الشعوب العربية، ويوم كان الحديث حول السياسة كالهواء الذي يتنفسه عامة الناس، فقيرهم وغنيّهم، فالـ (الحكي) بالسياسة لم يكن أمراً يستجلب المواربة بالكلام، ولا استخدام تقنيات التشفير، ولا خفض الصوت همساً، كان واضحاً قوياً معلناً متداولاً كفنجان قهوة، أو كوب شاي على طاولة مقهى شعبي، عندما كانت السياسة والقهوة أصدقاء، كنَّا بألفِ خير.

عقودٌ مرَّت والجفوة قائمة بين السياسة والقهوة، والصحيفة والمقهى، والفكرة والنَّاس، لم يكن ابتعاداً طبيعياً ناتجاً عن ظروفٍ طبيعية أبداً، بل كان ابتعاداً قسريّاً خططت له الأنظمة الاستبدادية ونفّذت أجهزتها بمهارة، لتتم عملية فصل الإنسان المفكر الواعي عن مجتمعه، حتى تحول الأمر إلى خطابات تُرسل من خلف جدران البيوت والنوافذ المغلقة، التي تغطيها ستائر معتمة، خطابات تحتاج ألف محاولة لتصل لمن يحتاجون تلك الكلمات.

لم يكن وباءً هذا الذي أبعد القضايا الوطنية عن الحالة الشعبية، وحمل المثقفين إلى بيوتهم التي تشبه الزنزانات، بل هو أكبر من وباء، إذ إن العودة لسابق عهد المقاهي ثمنه سجن مؤبد، أو إعدام دون محاكمة، أو اختفاء قسري، أو مؤامرة بشعة تحاك لتشويه سمعة، وتشكيك الناس بكل شيء، حتى من كانوا يثقون بهم.

يُعرف من مقاهي الزمن الجميل في دمشق مقهى النوفرة والبرازيل والهافانا الذي يعود تأسيسه لتاريخ 1945م، حيث كان يجلس كبار الشعراء والكتاب والأدباء؛ الجواهري والسياب والبياتي والشاعر القروي يستلهمون أفكارهم

يُعرف من مقاهي الزمن الجميل في دمشق مقهى النوفرة والبرازيل والهافانا الذي يعود تأسيسه لتاريخ 1945م، حيث كان يجلس كبار الشعراء والكتاب والأدباء؛ الجواهري والسياب والبياتي والشاعر القروي يستلهمون أفكارهم، أو يعبرون عنها حواراً أو كتابة، ومن هناك كان الوعي يتشكل، من جلسات حوار مفتوحة، ومن أصحاب هم وقضية قرروا أن كلمة الحق سلاحهم الأمضى، ومفتاح مواجهة الاحتلال بأشكاله، فكانت وجهاً لامعاً لثقافة المدينة وحضارتها، تماماً كما تشتهر العراق بمقهى الخفافين والشابندر الذي تحول بعد تفجير أليم حصل في 2005 إلى مقهى الشهداء، ليكون شاهداً على النكسات والجراح التي عصفت وما تزال بالأمة، فغيّرت من ملامحها.

وتعرف القاهرة بمقاهيها التي عرفتها قبل أن تعرف مشروب القهوة، وكانت المقاهي مساحة واسعة لنشر الأفكار، وتهذيب ثقافة المجتمع، ولم تقتصر كما يروج إعلام اليوم على لعب الطاولة، بل كانت تفسح المجال على اتساعه لأخبار التاريخ والقصص والملاحم، وتخصص زاوية للحكواتي، كما تعرض لوحات فنون تشكيلية، وتقيم أمسيات شعرية، فهي أشبه بمركز ثقافي مصغّر، غير أنها أهم من المراكز الثقافية المتعارف عليها، كون أبوابها مفتوحة للناس من كل فئات المجتمع، ومن كل طبقاته، كما تعرف بيروت بمقاهيها الثقافية، وكما تجد  في تاريخ كل مدينة أو عاصمة عربية مقهى ارتبط بتاريخ من الوعي وصناعة الإنسان الوطني المثقف، الذي يتلقى الخبر وتحليلاته وأبعاده من قامات ارتبطت ارتباطاً عميقاً بقضايا الوطن، فكان صقل الأفكار، وتوجيه العاطفة ونماء العقل في مكانٍ يحمل روح كل مدينة، وينبض بها، بلا أسوار أو قيود.

مع تغير الوضع السياسي في البلدان العربية، بدأ التشويه لوجه المقاهي،  سواء عبر الإعلام أو عبر سياسات التضييق والملاحقة والقيد على أصحاب الرأي والفكر، فبات المقهى مكاناً ملائماً لاستقرار المخبرين وعيون الأفرع الأمنية

مع تغير الوضع السياسي في البلدان العربية، بدأ التشويه لوجه المقاهي،  سواء عبر الإعلام أو عبر سياسات التضييق والملاحقة والقيد على أصحاب الرأي والفكر، فبات المقهى مكاناً ملائماً لاستقرار المخبرين وعيون الأفرع الأمنية، والمكان الذي تقصده أجهزة الدولة للتنصت على ما يدور في عقول الناس، وتدريجياً أصبح الخوف سيد المشهد، وأصبح الجلوس في المقهى طقساً ترفيهياً في أحسن الأحوال، أو مساحة قصيرة للراحة والتقاط الأنفاس، والتحدث بالأحاديث العابرة التي تبتعد كثيراً عن كل ما يضخ في خدمة الوطن والأمة، وانقسمت إلى شعبي مسلوب من روح الشعب وطاقاته، ومقاهٍ مترفة يقصدها الأغنياء للتسلية، وأدخلت فيها وسائل الترفيه والإنترنت، لتساعد على امتداد العزلة بين الناس حتى وإن جلسوا على طاولة واحدة، لقد تلاشى الكلام في السياسة والوطن، وهُمّش دور المواطن والإنسان، وأُبعد المثقف ليتحدث عبر الكتب والشاشات، وهذا مما ساعد في امتداد قبضة السلطات الحاكمة على الشعوب.

اليوم وبفضل الربيع العربي، عاد الصوت أعلى في معظم شوارع وساحات المدن العربية، بات الحديث في السياسة معلناً، والجهد لأجل التغيير واضحاً، وامتد منذ صرخة الثورة الأولى، ليأخذ طابعاً جديداً، ويحمل ملامح جديدة، تضخ فيها الفكرة والرأي والطاقة الدم لأجل أن تفك الأغلال عن الأوطان المتعبة، الثورة وضعت كل صاحب قلم وفكر أمام مسؤولياته، خلعت النوافذ والأبواب، سامحة للضوء أن ينفذ بقوة ليحرك العالم، والسؤال المطروح هنا، هل ستنجح الثورة في إعادة الوعي السياسي والمشاركة المجتمعية للناس، لتكون مع كل فنجان قهوة، وجرّة قلم، وطلقة بندقية، ومع كل اجتماع ومشروع وهدف؟ هذا ما يعول عليه من جهود الأحرار اليوم وبالأمس وغداً...