عن السويداء والفراغ الثوري

2020.06.11 | 00:01 دمشق

eafy-xbxyaosm06.jpg
+A
حجم الخط
-A

مع إخراجنا من دائرة الفعل، إما لصالح العسكر والمتنفذين في مناطق حكم الفصائل، أو بسبب الهجرة الجماعية داخلياً وخارجياً، بتنا نعاني كناشطين ثوريين ومنذ وقت طويل بالعطالة والفراغ، إلى جانب انحسار الأضواء عن كثير منا، ما يجعل أي حدث أو قضية مثار اهتمام واسع.

ربما يكون من باب حرية التعبير أن يدلي كل شخص برأيه في أي مسألة، بغض النظر هنا عن حوامل هذا الرأي المعرفية والمعلوماتية، لكن الضجيج الذي يحدث في كل مرة يناقش فيها أي موضوع وبما يعمق من الخلاف ويثير المزيد من الحساسيات في أوساط المعارضة، يخرج الأمر عن سياق الحق في التعبير إلى سياقات أخرى، ربما أحدها البحث عن استعادة الأضواء والرغبة في إثبات الذات من جديد.

آخر الأحداث التي دار حولها جدل واسع هي المظاهرات التي بدأت تخرج في مناطق سيطرة النظام مؤخراً، والتي كان أهمها بالطبع مظاهرات مدينة السويداء.

أولاً لا بد من التأكيد على أن نسبة محدودة جداً من الثوار والمعارضين عبروا عن موقف سلبي من هذه المظاهرات، حتى أنهم بالكاد يشكلون نسبة يمكن الحديث عنها، لكن مع ذلك حدث اهتمام كبير بهذا العدد المحدود جداً من قبل الغالبية الساحقة التي احتفت بالحراك الشعبي الأخير، إلى حد استدعاء أمثلة تاريخية (من تاريخ الثورة) وجغرافية (مناطقية) لا تنطبق على ما نحن بصدده، من أجل إثبات دعم مظاهرات السويداء والتأكيد على أنها فعل ينتمي للثورة.

والحق أنه لمن الصادم أن نقبل مجرد قبول بوضع أصحاب هذا الحراك تحت مبضع التشريح لكي نقرر هل يستحقون الدخول في دائرة الثورة أم لا؟!

والحق أنه لمن المدهش أن تصبح قضية خروج مظاهرات تهتف من أجل سقوط النظام ورحيل الأسد وخروج المحتلين الروس والإيرانيين محلاً للنقاش، والحق أنه لمن الصادم أن نقبل مجرد قبول بوضع أصحاب هذا الحراك تحت مبضع التشريح لكي نقرر هل يستحقون الدخول في دائرة الثورة أم لا ؟!

لست هنا بوارد نقاش آراء وأسباب ودوافع من يعترضون على هذه المظاهرات من المحسوبين على الثورة، فهي من التهافت والتناقض والقصور إلى حد أنها تتضمن الرد عليها بذاتها، بل ما يثير استغرابي هو السهولة التي يجري بها سحبنا إلى الملعب الذي يستدرجنا إليه خصومنا الفكريون أو السياسيون في كل مرة، والسلاسة التي يستطيعون من خلالها التأثير علينا !

هل الثورة انطلقت في الخامس عشر أم في الثامن عشر من آذار 2011؟..هل هي ثورة ريف أم ثورة مدن؟..هل شارك أهل دمشق وحلب في الثورة بما يكفي أم لا؟..وهل أصلاً كانت مشاركة أبناء المحافظات الأخرى جيدة وحقيقية حقاً؟..هل الثورة تهدف لإقامة دولة دينية أم مدنية؟..هل نحن مع المحور التركي أم السعودي؟..هل اللاجئ السوري في الخارج يتصرف بشكل جيد أم لا؟..إلخ من هذه الأسئلة الساذجة والجدل البيزنطي المؤسف الذي لا يؤدي إلا إلى معارك لا تنحصر فقط في وسائل التواصل الاجتماعي، بل تمتد آثارها إلى الواقع، وتترجم حساسيات وعداوات وإضاعة للجهد والوقت، الذي يفترض بنا كثوار ومعارضين أننا نرسخه لخدمة معركتنا من أجل إسقاط النظام وإقامة دولة العدالة والقانون.

هذه الأسئلة الساذجة والجدل البيزنطي المؤسف الذي لا يؤدي إلا إلى معارك لا تنحصر فقط في وسائل التواصل الاجتماعي، بل تمتد آثارها إلى الواقع، وتترجم حساسيات وعداوات وإضاعة للجهد والوقت

في عشرينيات القرن الماضي، ثار الجزائريون ضد الاحتلال الفرنسي، وكانت هذه ثورتهم الشاملة الثانية بعد الثورة التي قادها الأمير عبد القادر الجزائري، وعلى خلاف الأولى والثالثة التي ستؤدي للاستقلال، كانت الثورة الجزائرية الثانية ثورة سلمية، التحقت بها جماهير الشعب من كل الفئات والمناطق، ومن خلال المظاهرات والإضرابات والعصيانات المدنية، أجبر الفرنسيون على الاستجابة لمطالب الثوار الذين منحوا حق تشكيل مجلس نيابي يمثل الجزائريين، الذي يتذكرون بمرارة كيف تفجرت الخلافات وقتها بينهم على الأساسات نفسها التي تفجرت خلافات الثوار السوريين (أيديولوجية ومناطقية وطبقية وقومية)، بينما جلس المحتل الفرنسي يشاهد بمتعة هذه المعركة البينية التي انتهت بعجز الجميع عن الاتفاق على عشرة أسماء تمثلهم، وانتهت الثورة تلك إلى لا شيء.

هل هو قدر الثورات الشعبية أن تخوض المسارات المتعبة والمهلكة نفسها؟

ليس بالضرورة طبعاً، فرغم كل السوداوية التي طبعت السنوات والأشهر الأخيرة من عمر الحدث السوري، فإن انتفاضة الجيل الجديد تعطي الأمل بتجاوز انسداد الأفق الثوري خاصة عندما يشمل الانتفاضة ضد كل سلطات الأمر الواقع في مختلف أنحاء البلاد.