عن الذي رفض أن يُطلق سراحه

2019.12.13 | 16:47 دمشق

images_9.jpg
+A
حجم الخط
-A

انكببنا على قراءة مجلة "دراسات عسكرية" بنهم. كان آخر ما قرأته في السجن الصحف التي أرسلها لي مرّة العقيد كمال يوسف، والتي قرأنا، منيف ملحم وأنا، كلّ حرف فيها في خريف 1981، مرّات ومرّات. بعدها صرنا نقرأ فقط أفكارنا وخيالاتنا وأوهامنا. ولا أدري أكان العطش للقراءة أم الرغبة بالتواصل مع العالم الحقيقي هو ما جعلني أغرق في المواضيع الاستراتيجية والعسكرية، بل إنني وجدت بعض الدراسات ممتعة ومفيدة.

ياسر مخلوف سيساعدني قليلا في فهم بعض القضايا العسكرية. لم يكن ياسر مخلوف عسكريا. كان طالبا في كلية الاقتصاد في جامعة حلب، ولكنه كان يهتمّ بالمسائل العسكرية بعض الاهتمام، وبالنسبة لي، كان خبيرا. ينحدر ياسر مخلوف من أسرة مخلوف نفسها التي كان حافظ الأسد قد صاهرها. وثمّة علاقة قربى بين أمّه وزوجة الأسد، أنيسة مخلوف. كان ذلك سببا كافيا ليحقد الأسد عليه أكثر من حقده علينا جميعا، ذلك أن أكثر ما كان يزعج الأسد ويثير أعصابه أن يقف أحد من الطائفة التي كان يمثّلها ضدّه، ويَعتبر ذلك نكرانا للجميل. على أن ياسر لم يكن يأبه بذلك، فقد كان آخر همّه ما يظنّه الرئيس. سيزيد حقدُ الأسد، حين سيعرض على ياسر الخروج من السجن إذا ما تعهّد بترك العمل السياسي. ولكن ياسر سيرفض ذلك العرض، لأنه لن يخرج دون رفاقه ولن يتعهّد بترك نشاطه السياسي. أن تعارض الدكتاتور شيء وأن ترفض أعطياته شيء آخر. وهو إن سامحك على الأولى، لن يغفر لك الثانية أبدا.

التقيت ياسر أول مرّة في اللاذقية مطلع 1981. كنت مبعوثا من لجنة العمل لحضور مؤتمر منطقية اللاذقية التي سترشّح ممثليها للمؤتمر. وقد يكون ياسر هو من استقبلني في محطة الباص، وأخذني إلى بيت أهله: فيلا أنيقة ومشرقة وفسيحة. لم أكن أعرف وقتها أنها بيته.

"أسيكون المؤتمر هنا؟" سألته بدهشة واستبشار.

"ليس تماما،" أجاب. ثمّ أضاف ضاحكا: "بل هنا".  ثمّ أدخلني في غرفة جانبية صغيرة، قد تكون مخصّصة أساسا لعامل الحديقة أو الحارس.  في تلك الغرفة الضيقة انحشرنا، بضعة وعشرين رفيقا، يدخنّون بشراهة، كان فتح النوافذ ممنوعا كي لا تصلَ أصواتنا إلى الخارج. ولا أدري أكان الدخان أم نقص الهواء أم صداع عنيف ألمّ بي أم أنني كنت ضحية لفيروس رشح كريه، أم هي جميعا، فقد شعرت بغثيان كريه وصداع

بعض دراسات المجلة الأخرى لم تكُ سوى تسويق رخيص لنظام حافظ الأسد، باستهتار مقيت لعقول القراء

ممضّ أبعداني عن جو النقاش والترشيح والانتخابات التي كان من واجبي أن أراقبها. كان الجميع يتحدّث معا ولكنني لم أكن أسمعهم، فكأنهم يتحركون ويتحدثون في عالم آخر، بينما أنا مرمي في عالم ثان، أتعرّق ويمضّني الصداع والغثيان.

سأعرف ياسر في السجن أكثر. لم نكن صديقين، ولكننا لم نختلف. كان دائم السخرية ماهرا في إدارة الحوار في الاتجاه الذي يريده، يبتعد دائما عن النقاشات الساخنة ما لم تكن ضرورية. وكان من القلّة التي كان فاتح جاموس يخشاها، لسبب ما.

ولكن بعض دراسات المجلة الأخرى لم تكُ سوى تسويق رخيص لنظام حافظ الأسد، باستهتار مقيت لعقول القراء. من دراسات عسكرية، عرفت مثلا أن وزير الدفاع السوري آنذاك، مصطفى طلاس، قد حاز المركز التاسع العشر على العالم في إحدى الدورات التي أتمّها في الاتحاد السوفياتي. أثارت تلك المقالة سخريتنا، فنحن نعرف في طلاس شاعرا رديئا وعسكريا فاشلا، لا يجيد سوى التوقيع على أحكام الإعدام التي تصدرها المحاكم الميدانية بعد محاكمات تستمر دقيقة أو اثنتين.

علمنا بعد فترة أن في السجن مكتبة، لم يُتح للسجناء استخدامها. بعد دراسات عسكرية، ستأتينا من تلك بعض كتب التراث، ودواوين شعر وروايات عالمية وعربية. كانت الكتب تصل إلينا في البداية بتقتير، ثمّ بوفرة أكثر. ومن بين الروايات العالمية التي قرأناها سجين قلعة زندا للروائي البريطاني أنتوني هوب، والكونت دو مونت كريستو للكاتب الفرنسي ألكسندر دوماس الأب، وكلاهما وصَفا وصْفا موجعا حال سجينين آخرين في رحاب الأرض الواسعة، ظُلما مثلنا. الأول كان في عشية يوم الاحتفال لتتويج ملك مملكة متخيّلة (روريتانيا) يوقع به شقيقه ويضعه في زنزانة في قلعة بلدة صغيرة تدعى زِنْدَا. والثاني إدمون دانتس البحار الذي أوقع به ثلاثة من خصومه فسجن في سجن الباستيل الرهيب عقودا حتى هرب.

من بين الكتب الرائعة التي كان من الصعب أن أقرأها خارج السجن كانت موسوعة قصة الحضارة للكاتب والمؤرّخ الأمريكي ويل ديورانت. جاءتنا الموسوعة جزءا إثر جزءا، أربعة وأربعون جزءا خصبا، ثريا بالتفاصيل، كُتِبَ بلغة فاتنة، سَلِسة، وغنية. بدأها ويل ديورانت عام 1935، وأنهاها بمساعدة زوجته آرييل بعد أربعين عاما وهو يشارف على المائة من عمره، وناقش فيها نشأة الحضارات وتراجعها أو سقوطها. بحث عن القواسم المشتركة بين الحضارات، ورأى أن في كلّ حضارة جمالا خاصّا بها وقيمة تميزها عن غيرها.

ولأن عددنا كان أكثر من عدد الكتب الجيدة، كان علينا أن نتناوب على قراءتها، واخترنا لجنة مكتبة توزّع علينا الكتب وتراقب تداولها على مدار 24 ساعة. كنت أضطر أحيانا إلى السهر لساعات متأخرة من الليل أو الاستيقاظ في منتصف الليل أو في ساعات الفجر الأولى، لأقرأ في أحد المجلّدات ساعتين قبل أن أعطيه لمن يليني في الدور، وأعود للنعاس.  

تعلّمت من ويل ديورانت الكثير. تعلّمت منه أن الأمم جميعها متساوية في السلّم الحضاري، وأن العلوم الإنسانية مرتبطة معا بشكل مباشر أو غير مباشر وأنها تنسلّ واحدها من الآخر، فلا يمكن إذن الفصل فيما بينها، وتعلّمت أن أي حضارة راقية ما كان بإمكانها أن تحتلّ مكانتها في التاريخ لولا اعتمادها على الحضارات التي سبقتها.  بيد أن أهم ما تعلّمته من قصة الحضارة كان تذوّق العمارة. كانت علاقتي بالفن قبل السجن محصورة بالموسيقى والمسرح والتصوير.  من خلال ويل ديورانت أدركت أن العمارة أيضا فن عظيم لا تستقيم الحضارة بدونه.  ومن خلاله، بدأت أتلمّس الفرق بين العمارة البيزنطية والقوطية وعمارة الباروك، وبين العمارة الإسلامية والعمارة الهندية، ومن قصة الحضارة عشقت كنيسة أيا صوفيا قبل أن أراها، وهو ما برّر الخشوع العميق الذي أحسته وأنا أزورها أول مرّة، وأتذكر وصف ديورانت لها، ووصفه لقبّتها الكبيرة التي بنيت على شكل صليب يوناني طوله 250 قدماً وعرضه 225، وقد توِّج كلَ طرف من أطرافه بقبة صغرى، والتي بنيت، على خلاف قبة البنثيون في روما، من الآجر في ثلاثين سطحاً تلتقي كلها في نقطة واحدة.

وعمّقت قصة الحضارة عشقي المبهم منذ الطفولة لكنيسة نوتردام، وكنت

لا يزال في نفسي توق لزيارة تاج محلّ، ذلك القبر الصغير الذي لا يكاد يبلغ ارتفاعه ثلاثين مترا، ولكنه يرينا الفرق بين الصناعة والفن

أتخيلها وأنا أقرأ رائعة فيكتور هيغو كنيسة صغيرة ككنائس حمص القديمة، فصحّح لي ديورانت نظرتي، ورغم ذلك لم يستطيع أن يسحب مني شهقة الذهول لحظةَ رأيتها في الحقيقة أول مرّة.

ولا يزال في نفسي توق لزيارة تاج محلّ، ذلك القبر الصغير الذي لا يكاد يبلغ ارتفاعه ثلاثين مترا، ولكنه يرينا الفرق بين الصناعة والفن؛ فربما، وأنا هنا أنقل عن كتاب قصة الحضارة، "كانت قوة العزيمة الكامنة في تصور إقامة بناءٍ مثل تاج محل أعظم وأعمق من قوة العزيمة التي نصف بها أمجد الفاتحين؛ ولو كان الزمن بصيراً بما يفعل."

ومع ذلك، يبقى كنزي الحقيقي في سجن تدمر في روايات نجيب محفوظ. كنت قرأت قبل الاعتقال معظم رواياته، وأغرمت بالثلاثية وميرامار والطريق، وأعدت قراءة خان الخليلي مرارا. ومع ذلك، حين وصلتنا كتب محفوظ أحسست ببعض الحرية المسروقة مني تعود إلي، فأعدت قراءتها جميعا. ولكن فضل نجيب محفوظ لا يقف عند إعادة قراءة رواياته، بل يتجاوزها إلى أكثر من ذلك بكثير، فبفضل نجيب محفوظ اكتشفت عماد ظبيان.

****

كلمات مفتاحية