عن التّرقيع والتّبرير لبعض التّطبيع والمطبّعين مع الكيان الصّهيونيّ

2022.04.24 | 06:47 دمشق

thumbs_b_c_e700bc54d1d1240af4b85764ce3970c5.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم تكن مهمّة العالم الحقّ يومًا التّرقيع والتّبرير لأحد، ومن حمل في قلبه وعقله علم الشّريعة كان أكثر حرصًا على من يحبّهم من الحكّام والسيّاسيّين من الانزلاق ولذا فإنّه يكون أكثر إنكارًا عليهم ورفضًا لما يمكن أن يرتكبوه من مخالفات، ألا وإنّ من أعظم المخالفات وأقبحها التّطبيع مع الكيان الصّهيوني.

  • تبرير التطبيع وتفهّمه فتحٌ لباب شرّ عظيم

بيّن الله تعالى في كتابه الكريم أنّ مهمّة العلماء أن يبيّنوا الحقّ ولا يكتمونه، وشنّع البيان الإلهيّ على من خانوا أمانة العلم فكتموا الحقّ؛ فقال تعالى في سورة آل عمران: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ".

كما بيّن الله تعالى أنّ مهمّة العلماء أن يبلّغوا رسالات الله تعالى دون أن يخافوا أحدًا سواه من الخلائق؛ فقال عزّ وجلّ في سورة الأحزاب: "الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا".

وإنّ هذا التبيين والتبليغ لا يكون في حضرة من نتخذ منهم مواقف العداء من الحكام بسبب خيانتهم للدّين أو ارتمائهم التّام في أحضان أعدائنا فحسب؛ بل يكون بصورة أكثر إلحاحًا مع الحكّام والسياسيّين الذين نحبّهم ونتوسّم فيهم خيرًا.

تذكرُ كتب التّاريخ أنّ الخليفة هارون الرشيد ذكر للإمام مالك بن أنس أنه يريد هدم ما بناه الحجاج من الكعبة، وأن يردّه إلى بنيان ابن الزبير، فقال له: "ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبةً للملوك، لا يشاء أحدٌ منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور النّاس".

نظرَ الإمام مالك إلى فعلٍ يمكن تفهّمه وتسويغه وله مستندٌ شرعيّ يمكن أن يقبله، ولكنّه مع ذلك لم يتفهّم موقف الخليفة الذي يحبّه ناظرًا إلى مآل الأمر وعاقبته، فاعترض على الخليفة خشية فتح باب شرّ يتعلّق بمقدّس من أعظم مقدّسات المسلمين وهو الكعبة.

وإنّ العلماء اليوم أولى برفض التطبيع الساطعة حرمته، وعدم تفهّمه ممّن يفعله ولو كان حاكمًا يحبّونه؛ لأنّ تسويغهم أو تفهّمهم سيفتح باب العبث تحت ستار الشّريعة بحقّ قضيّة من أقدس قضايا الأمّة تتعلّق بمسرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

  • الصّمت والكتمان تشويه للحقّ فكيف بتفهّم التطبيع وتسويغه؟

بيّن الله تعالى في قوله: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ"، صفات صنفينِ من العلماء الذين أوتوا العلم؛ كلاهما يمارس التّضليلِ من حيثُ السّلوك والتّأثير وإن اختلفت الدّوافع عند كلّ منهما.

 صفة الصّنف الأوّل هي إلباس الحقّ بالباطل؛ أي خلط الحق بالباطل بطريقة متعمدة وتشويه الحقائق ‏وتضليل العباد، وهؤلاء هم الذين باعوا دينَهم بدنيا غيرهم من الحكّام الظّلمة فراحوا يوقّعون لهم على كلّ باطل يفعلونه ومن ذلك تطبيعهم الفجّ مع الكيان الصّهيوني، وقد عرّاهم النّاس واكتشفوا زيفهم وضلالهم.

‏ وأمّا صفة الصّنف الثّاني من العلماء؛ فهي كتمان الحقّ والسكوتُ والصّمتُ حيثُ يجبُ الكلامُ، والانزواء عند شدّة حاجة النّاس إلى البيان والتّبليغ، مع وجودِ القدرة على القول والتبيّين، وانتفاء المانع الحقيقيّ الباعثِ على الصّمت، والتذرُّع لأجل السّكوت بالخشية من المخاطرِ غير الحقيقيّة، أو التذرّع بالمصالح الموهومة، أو إلباس المصالح الشّخصيّة مصلحة الدّين وتبرير الصّمت بها.

كنتُ أظنّ يومًا أنّ أسوأ ‏ما يمارسه مَن يُتوَخَّى فيهم الصلاح من العلماء والدعاة، أو مَن يدّعون ‏الموضوعيّة والواقعيّة والفهم والحنكة؛ هو التلفّع بالصّمت حيث يجب القول، والنكوص حيث يتحتّم الإقدام، مع القدرة على القول والبيان، وابتلاعُ الكلامِ حيثُ يجبُ إطلاقُه، وتقصيرُ اللّسان حيثُ يجبُ تطويلُه، والسّكوتُ في الموضعِ الذي يُفهَم فيه مِن السّكوت موقفٌ، ويعدّ فيه السّكوتُ ضربًا من البيان؛ حيثُ إنّ السّكوتُ في معرضِ الحاجةِ إلى البيانِ بيانٌ؛ غير أنّ الواقع أثبتَ أنّ ما هو أسوأ من ذلك أن ينبريَ العالم أو الدّاعية بحسن نيّة منه مدافعًا عن سلوكٍ باطل واضح البطلان صدرَ من حاكم أو سياسيّ يحبّه ويثق فيه، ويلبس الدّفاع عن هذا الباطل ثوب التفهّم أو التبرير أو التّسويغ.

والأمّة التي يلبّسُ ‏أهل الضّلال فيها على الناس بكلّ أريحية يعضدهم ويعينهم على ذلك خرس أهل الحق؛ لا محالةَ هيَ ‏أمةٌ بائسةٌ تضيعُ فيها الحقائقُ، وتتيهُ في شعابِ باطلها الجماهيرُ، ولن تقوم لها قائمةٌ بين الأمم؛ فكيفَ إن ساندها تسويغ أهل الحق للباطل بطريقة انتقائيّة؟

إنّ من يرفعون عقيرتهم برفض التطبيع مع الصّهاينة من حاكمٍ لا يحبّونه، ثمّ يصمتون إن وقع التّطبيع من حاكم يحبّونه أو يسوّغون هذا التطبيع ويتفهّمونه يوقعون المسلمين في مفاسد كبيرة من أقلّها إذهاب هيبة الشّريعة من نفوسهم، وتسويغ التّطبيع عمومًا؛ فالتّطبيع مع الصّهاينة شرّ كلّه، وليس هناك تطبيع على رأسه ريشة.