عن التركة المُضاعة: القمح والخبز

2022.09.06 | 06:02 دمشق

عن التركة المُضاعة: القمح والخبز
+A
حجم الخط
-A

عندما يتحدث أحد عن الخبز نشعر نحن الريفيين، بأنه يتحدث عن لون بشرتنا الحنطي وعن تاريخنا الخاص جداً، فتحكنا جلودنا ويصحو تقارع أحجار الرحى في قيعان الذاكرة.

هذا ما أحدثه مقال للباحث محمد الربيعو حول كتاب (تاريخ عالمي للخبز) لويليام روبل. ألا يثير هذا العنوانُ دهشة أولى فور قراءته؟ الخبز كموضوع خاص، مستقل، بهويات متعددة، تتأثر أحياناً وتؤثر أخرى اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. وكيف لا يكون ذلك، وهو النجاة (القمح) في قصة النبي يوسف، وهو صلاة المسيح: "أعطنا خبزنا كفاف يومنا". لذلك نرفعه ونقبّله ونضعه على الرأس إذا ما وقع على الأرض؛ إنه هبة الرب التي تحفظ حياة الإنسان وكرامته. إذاً الفلاحون هم رعاة هبة الله، يخزنونها ويبذرونها ويفلحون أرضها، ويكفيهم ربح قليل يقيم أودهم للسنة القادمة، لأنهم يرثون من القمح الكرم وطيبة القلب.

في الجنوب السوري تتكافأ كلمتا (خبز وقمح)، على الرغم من أن مزارعي السهل الذي أنتج أحد أهم أنواع القمح اعتادوا أكل خُبز الذرة الصافي أو المخلوط بالشعير، بينما يُخصُّ الضيوف بخبز القمح الصافي. يتفق ذلك مع رمزية الخبز المستعمل كعلامة للفارق الطبقي في مقال الربيعو، ما تعبّر عنه ثنائية القرايا/ السرايا في اختزال لجملة من مزاعم التفاوت الثقافي والحضاري والاقتصادي.. حيث يبيع الفلاحون القمح فيجد طريقه، عبر تجار الحبوب، إلى المدن، بينما اكتفوا بخُبز الحبوب الأخرى لأنفسهم. الطحين الأبيض (الزيرو) كان علامة رفاهية يستخدم أحياناً في صناعة بعض أنواع الحلويات. أما الصمون، ومن ثم الخبز السياحي، فكان يدخل بيوت الفلاحين كهدايا ثمينة، إلى أن اتسع انتشار أفرانهما لاحقاً.

لقد انفكت إحدى عرى العائلة والمجتمع بتحول هذه المهمة من المنزل إلى الأفران، من الأم إلى الخباز، "من الإناث إلى الذكور"

في بيتنا كان التنور (الفرنيّة؛ يؤنّث باللهجة الحورانية) يتكئ على جدار الدار الشمالي، وقد أدركتُ أمي، تصحو عند الفجر لتخبز العجين المكمور من الليلة السابقة، قبل أن تنظف الحوش وتفتح خمّ الدجاج وتحلب الأبقار وتطعمها. كما كانت رائحة الخبز والفطائر والقالب الحوراني تحتل صباح اليوم الأول من كل عيد، وفيه تتجمهر النسوة منذ الفجر لتتساعد في إنجاز المهمة المقدسة لعوائلهن جميعاً، فيما أشار له الربيعو: "وبالتالي كان إعداد الخبز يمثل قنوات للتواصل الاجتماعي". لقد انفكت إحدى عرى العائلة والمجتمع بتحول هذه المهمة من المنزل إلى الأفران، من الأم إلى الخباز، "من الإناث إلى الذكور"، من تكافل نساء الحي إلى تشغيل اليد العاملة، من الموهوب إلى المأجور. لعل ذلك يفقد الخبز كثيراً من قدسيته وإن حافظ على أهميته كغذاء.

ما زالت نساء كرديات في إسطنبول يخبزن خبز التنور (tandır) في أفران طينية، تقمّر وجوههن الحرارة، وتلسع رؤوس أصابعهن النار. ليس فقط لنشتري الخبز نقف أمامهن، بل لنبحث عن وجوه الجدات، عن خصوبة مقدسة لا تمنحها إلا كفوف نساء ورثن خبرتهن مع أساور الأمهات النحاسية، وعن الوهج السوري الذي يخفت كلما ابتعدنا عنه. بينما يدل مسمى (الخبز السوري) في إسطنبول على الخبز السياحي، الذي تعرفه ذاكرة السوريين كمنتج قادم من لبنان قبل أن يتقنوا صنعته! لعلها حساسية التاجر للربح تحت أي ظرف، فلا يقيم في اعتباره قيمة للهوية أو التراث؛ السوريون يحتاجون الخبز، لننشئ الأفران ونسميه الخبز السوري. هنا تفقد "أحن إلى خبز أمي" رعشتها تحت الجلد.

يأخذ القمح الحوراني اسمه من السهل الذي أنجبه، "وقد وصفه العالم "بركهارت" الذي زار حوران عام 1810 بأنه ناتج اقتصادي عالمي، ووفقاً لما يضيفه كتاب (القمح الحوراني بين التاريخ والتراث)، فإن زراعة القمح ابتدأت من حوران حول الأنهار (اليرموك، العلان، الزيدي، الهرير)، وأخذت آلات الزراعة بالتطور منذ الألف التاسع قبل الميلاد. كما سميت حوران بإهراءات روما لأن ناتجها من القمح كان يكفي روما، ويرسل بعضه إلى مصر، وينذر الباقي لدور العبادة. وربط مؤلف الكتاب بين إرسال الدولة العثمانية ناتج حوران من القمح إلى الأستانة وبين ثورة دمشق عام 1747 بعد أن توقفت أفرانها عن العمل.

في فترة لاحقة حيث أُدخل هذا القمح إلى مخابر التعديل الوراثي، أصبحنا نحس بانتهاك الحداثة للأصالة، السلطة للهوية الخاصة، التلاعب الجيني للعرق الصافي، حين بدأت زراعة القمح الحوراني تتراجع أمام قمح شام1 وشام2 وشام3. كما فرضت السلطة قوانينها الجائرة بمنع بيع القمح لغير الدولة التي خفضت أسعاره فبخست الفلاح حقه؛ إنها محاولة استعمار من قبل الدولة، في محاولة لفرض رأسمال سلطتها المعنوي على حساب رأسمالنا التاريخي العميق. يذكرني ذلك بما ورد في كتاب (فسحات الفلسفة وارتكاسات الخطاب) للباحث عمر كوش: "تقوم الدولة والمدينة بانتشال إقليمي، إذ يقتضي المجال الإمبريالي للدولة تقريب الأقاليم الزراعية بعضها من بعض، وإرجاعها إلى وحدة حسابية عليا، بينما يكيف الامتداد السياسي للمدينة الأقاليم محولاً إياها إلى مساحات هندسية قابلة للامتداد، إلى مسارات أو مسالك تجارية". قد يرى البعض في موقفنا حساسية مفرطة، فيقول: "إنه مجرد قمح"، لكنه أكثر من ذلك بكثير، إنه عمقنا وإرثنا، سلالة البشر والحجر والتراب، بذرة الحياة التي تكاتف وتضامن أولادها في زمن استعبد فيه الإقطاع الأرض ومن فوقها.

في مرحلة من مراحل الحصار في جنوبي دمشق توقعنا ردة فعل دولية تنهي جنون النظام السوري، إذ لم نستوعب أن يبقى العالم المتحضر صامتاً ونحن نُقصف بالكيماوي ونُجوّع حتى الموت

بالإضافة إلى المعنى الظاهر (الخبز كغذاء، والمسرح كفنّ) في القول: "أعطني خبزاً ومسرحاً، أعطك شعباً مثقفاً" يوجد رابط معنوي، فإن كان لكل شيء مسرح، كأن نقول: مسرح الجريمة، ومسرح المعركة... فهل لكل شيء خبز؟ يقال: "الجنود لحم الحروب" بقصد التقليل من أهميتهم في حساب خطط القادة الكبار، فما هو خبز الحروب؟ لعلهم الضحايا من غير الجنود، المدنيون، الشيوخ والنساء والأطفال، لذلك نقرأ تبرير مادلين أولبرايت (الذي ندمت عليه لاحقاً) إزاء قتل قرابة نصف مليون طفل عراقي: "كان أمراً يستحق ذلك". هل يفسر ذلك الإهمال الدولي لقصة الضحايا الطويلة في سوريا وغيرها؟ وهل علينا أن نخفف من رومانسيتنا في التعويل على الموقف الدولي الذي خذلنا مراراً؟ في مرحلة من مراحل الحصار في جنوبي دمشق توقعنا ردة فعل دولية تنهي جنون النظام السوري، إذ لم نستوعب أن يبقى العالم المتحضر صامتاً ونحن نُقصف بالكيماوي ونُجوّع حتى الموت، إلا أن حماسنا لذلك لم يزد عن كونه وهماً. إذاً، نحن المحرومين من الخبز كنا نُطهى ونُحمَّص في أفران الحصار حتى نعلن استسلامنا كضحايا، ليس للنظام فقط بل للعقل المتحضر في دول العالم الأول الذي يرى أنه "كان أمراً يستحق ذلك"، ثم يعبّر عن ندمه إزاء كسرة الخبز التي كسرتْنا.

إنها محاولة للكتابة بالخبز عن المجتمع، للنظر إلى البيوت من داخلها، وتوزيع المهام بين أفراد العائلة، وعادات الطعام، ومستوى الدخل، والعلاقات بين الجيران والأحياء، واستنباط بواعث التململ الشعبي والثورات، وأشكال اللعب السياسي وتضليل الشعوب المسحوقة بالشعارات، وتأميل الإنسان المحكوم بالحديد والنار بالنظريات والكلام الممطوط عن إنسانية الإنسان وقدسية حريته. نعم، لكل شيء خبز، فالدعاء خبز المؤمن، والقراءة خبز الكاتب. كذلك، الشعار خبز الساسة، والإذعان خبز العملاء، والمصلحة خبز الدولة، والعملية السياسية خبز النزاع الدولي في سوريا... لكن، هل بقي للسوريين أنفسهم قمح أو خبز في هذه المعمعة؟

كلمات مفتاحية