عن التبعيّة وأحوال التابعين

2019.10.13 | 17:59 دمشق

syriairanassadkhameneirtr20l4m-630x420.jpg
+A
حجم الخط
-A

لماذا نحن متخلّفون؟ سؤالٌ مطروحٌ منذ قرنٍ ونصفٍ في بلداننا، وقد تعدّدتْ الإجاباتُ عليه وتنوّعتْ وتناقضتْ، وكذلك الحلولُ والمشاريع المقترحة للخروج من هذا التخلّف، والتي لم تُطبَّقْ أو تنجحْ كما هو واضح، فما زالتْ مشكلاتُنا وقضايانا تُرَاوح في مكانها منذ أواخر القرن التاسع عشر.

وبدلاً من أنْ نذهبّ مباشرةً إلى التفسيراتِ الجاهزة والحلول السحريّة كما يفعلُ كثيرون، يجبُ علينا قبل كلّ شيءٍ أنْ نعترف أننا متخلّفون، وأنّ السيارات والموبايلات والأزياء الحديثة ليست هي مقياس التقدّم، إنما يكونُ المقياسُ بالنظر إلى ما وصلَتْ إليه العلومُ لدينا بالمقارنة مع غيرنا، ثمَّ بالنظرِ إلى شكلِ النظام السياسيّ الاقتصادي الاجتماعي الذي يحكمُ بلداننا وطبيعته ودرجة تطوّره.  كما يجبُ علينا أنْ نفهمَ أنّ العِلم اليومَ عِلمٌ واحد، فلا توجدُ علُوم عربية وأُخرى صينية وثالثة فرنسيّة.

قبل النظر في أسباب التخلّف واقتراح حلُولٍ لها، وهذا ما يمارسُه كثُـرٌ منا بشكلٍ يوميّ، وغالباً من منظورٍ "ثقافَوِيّ" سطحيّ؛ ينبغي لنا أنْ ندرك أنّ تخلّفنا هو من النوع المركَّب لا البسيط، فالتخلُّف البسيط يُقدَّرُ بالسنوات عند النظر في حالٍ بلدٍ من البلدان ومقارنته مع بلد آخر، كالمقارنة مثلاً بين الصناعة الإسبانية والصناعة الألمانية. أما التخلُّف المركّب -تخلُّفنا- فهو يأخذ شكلاً بنيوياً، أي هو يقوم في جوهره على علاقاتِ استغلالٍ وتبعيّة تمتدُّ من بلداننا "العالمثالثية" إلى المركز الغربيّ الإمبريالي. وبحُكم طبيعة هذه العلاقات التي تؤدي دوماً إلى غلَبَة طرفٍ على طرف، وإغناءِ طرفٍ عن طريقِ إفقارِ الطرف الآخر؛ فإنه من غير الممكن الخروج من نفق التخلّف إلا بعد الانفكاك عن هذه العلاقات، وبناء اقتصادٍ وطني مُستقلّ تحت سُلطةٍ سياسيّة مستقلة.

أغلبَ حكّام الدول العربية تختارهم أميركا وبريطانيا وفرنسا منذ استقلال هذه الدول عن الاستعمار المباشر

كان المفكّر المصري الراحل سمير أمين من أبرز المساهمين في "نظرية التبعيّة" على مستوى العالم، مُدعّماً إيّاها بنظرية "القيمة الـمُعَولَـمة". وبعيداً عن الجمود النظريّ؛ ينقسم العالم اليوم إلى مركزٍ وأطراف، نحنُ أهلُ الأطراف نشكّلُ 80% من سكّان الأرض، ونرتبط بعلاقات تبعيّة مع المركز الغربي. فإذا نظرنا إلى الدول العربية على سبيل المثال، نلاحظ أنّ قطاع النفط في البلد العربي (س) مرتبطٌ بقطاع النفط الأميركي أكثرَ من ارتباطه بقطاع التجارة أو الصناعة في البلد العربي ذاته. وكذلك يكونُ قطاع النفط في البلد العربيّ (س) مرتبطاً بقطاع النفط الأميركي أكثرَ من ارتباطه بقطاع النفط في البلد العربيّ المجاوِر له، أي أنّ علاقات الأطراف ببعضها بعضاً تمرُّ عبر المركز أيضاً وحصراً. ولا ضير فيَ أنْ نذكّر بأنّ التابع اقتصادياً هو تابعٌ سياسياً أيضاً، وأنّ أغلبَ حكّام الدول العربية تختارهم أميركا وبريطانيا وفرنسا منذ استقلال هذه الدول عن الاستعمار المباشر. وهُمُ يأخذون شرعيّتهم من المركز الغربي الذي يعيّنهم ويعزلُهم، وليس من الشعوب التي يحكمونها. وبالأمس فقط؛ باعَ بشار الأسد نفطَ سوريا وساحلها للقطب الروسيّ مُقابلَ إبقائه في السلطة، فهو يأخذُ شرعيّته من المركز الإمبريالي المتبُوع، لا من الشعب كما هو الحال في دول العالم الأول. وبالتالي لا يختلف دورُ بشار الأسد وأشباهه عن الدور التقليديّ للوكيل الاستعماري المسؤول عن تنفيذ خُطَط الدولة المستعمِرة ومشاريعها.

ونتذكّر عند انفجرت الثورة السورية في آذار2011، فلم يهتمّ نظام الأسد إذا ما كان نصفُ الشعب ضدّه أو ثلاثةُ أرباعه، فهو يأخذ شرعيته من الخارج لا من الداخل، من الدول التي ينفّذ أجنداتها ويحقّقُ مصالحها على أرض بلده. ومن خلال نظامه السياسيّ التابع للخارج، واقتصاده الكومبرادوريّ المتحالِف مع رأس المال الأجنبي على حساب الاقتصاد الوطني؛ صارتْ لإيران امبراطوريةٌ متمدِّدَةٌ في الشرق الأوسط لأول مرة منذ القرن السابع للميلاد. كما صارت روسيا مركزاً إمبريالياً يتدخّل عسكرياً ويؤسّس قواعدَهُ في المياه الدافئة لأول مرة في التاريخ.

وهنا يكمن الخطأُ الكبير الذي وقعتْ فيه الثورة السورية، والمعارضة التي كان أداؤها طوالَ الثورة عاطفيّاً وساذجاً ومؤذياً، عندما رهنتْ ثورة الشعب ومصيرَه لدى "الدول الصديقة" ودعمها وعطاياها، بدلاً من الاعتماد على الموارد الذاتية للسوريين. فالتابعُ اقتصادياً هو تابعٌ سياسياً، وبالتالي لا يعودُ له من دورٍ سوى تنفيذ مخطّطات الدول الداعمة. لكنْ في الحقيقة لم يكن بالإمكان تفادي هذا الخطأ الكبير، لكونه نتيجةً مباشرةً وأكيدةً للخطأ الأعظم وهو تسليح الثورة. 

الحقوق المادية والمعنوية المسلوبة من العامل الآسيويّ هي ذاتُها الممنوحة للعامل الأوروبي

ولكي نفهمَ نظرية التبعيّة، وتفاوُت الأوضاع الاقتصادية والسياسيّة بين المركز والأطراف، والفَوَارق بين مجتمعات الرفاهية ومجتمعات المعاناة؛ فلْنَنْظُرْ إلى المعامل الأوروبية الـمُشيَّدة في دول شرق آسيا، فهناك قد يشتغلُ العامل الآسيوي لمدة شهرٍ كامل من أجل 100 دولار، بينما يكون سعرُ القطعة الواحدة التي ينتجها في السوق الأوروبية 100 دولار، وهذا التفاوُت الهائل بين القيمة الحقيقة للسِلعة وسِعر المبيع هو الذي يؤدي إلى تراكُم رؤوس الأموال في المركز الغربيّ. وإذا ما عقدنا مقارنةً بين عاملٍ في آسيا وعاملٍ في أوروبا يعملان لدى الشركة ذاتها، سنجد الأوّلَ محروماً من شروط العمل الإنسانيّة ومن امتيازات الرفاه، بينما سنجد الثاني متمتّعاً بشروط عملٍ جيّدة وبنظام رفاهٍ ممتاز. ولا تعود هذه الفوارق إلى أنّ الآسيوي لا يحبُّ حقوق الإنسان أو يحترمها كما يفعل الأوروبي، ولا لأن الثقافة الآسيوية "متخلّفة" بطبيعتها وتفرض على أهلها واقعاً مادياً صعباً، بينما الثقافة الأوروبية "متطوّرة" بطبيعتها وتصنع لأهلها واقعاً حياتيّاً مُريحاً؛ بل لأن العلاقة بين الطرفين هي علاقة استغلال في الأساس، والحقوق المادية والمعنوية المسلوبة من العامل الآسيويّ هي ذاتُها الممنوحة للعامل الأوروبي. وهنا لا تستطيع هذه الشركة تحقيق المساواة بين عامل المركز الأوروبي وعمّال الأطراف، لأن تراكم رأس المال لديها ناجمٌ عن علاقات الاستغلال.

ولذلك يضحكني كثيرٌ من السُّوريين الذين تحوّلوا في السنوات الأخيرة إلى "شبّيحة" لدى الدول الغربيّة التي لجؤوا إليها، فتراهُم يؤيّدون سياساتها الداخلية والخارجية ويدافعون عنها، من دون أيّ جرأةٍ على النقد أو التشكيك أو التفكير. وتراهُم يغضُّون البصرَ عن الدور الغربيّ المكشوف في دعم الديكتاتوريات العربية، وفي إشعال الحروب في المنطقة وتعقيد أزماتها، وكذلك في تأجيج الطائفية وصناعة الإرهاب. وأقولُ لهؤلاء البائسين؛ أنْ يكون المرءُ "شبّيحاً" للحكومة السويدية أو الهولندية أو الألمانية أو الأميركية؛ فهذا لا يختلفُ في شيءٍ عن كونِهِ "شبّيحاً" للنظام السوري أو الإيراني أو السعودي أو المصري، لأنّ المذكورَ لم يفعلْ شيئاً سوى أنه اختارَ فِرعاً من فُروع النظام العالمي... وعَبَدَهُ!