عن الإرهابيين والمعتدلين والمدنيين في إدلب

2018.08.27 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كما هي الحال في أفلام التشويق، ترتفع وتيرة "الترقب" لما قد يحدث في إدلب، يوماً بعد يوم. كل الأطراف تستعد للقيامة الكبرى هناك. "يعمل" الدبلوماسيون الروس والأتراك ومن أمم أخرى بكامل طاقتهم استعداداً لمعركة إدلب. تحذر الأمم المتحدة من "كارثة إنسانية" إذا بدأت المعركة، من خلال موجة نزوح كثيفة ستصطدم بالجدار التركي على الحدود. ثلاثي "العدوان الثلاثي" في نسخته السورية، واشنطن ولندن وباريس، يحذرون من استخدام النظام السلاح الكيماوي في معركة إدلب. ثلاثة ملايين مدني معرضون للخطر.. إلى آخر هذا الكلام "التشويقي" الذي يمتلئ به الإعلام، مع أن "الفيلم" مكرور، لا جديد فيه، هو نفسه ما حدث في حلب والغوطة والجنوب وأماكن أخرى سبق أن استعادها النظام الكيماوي بهمة الطيران الروسي والبراميل المتفجرة والكلام الفارغ الذي ينتجه دي مستورا ولافروف وأشباههما.

هناك، مع ذلك، بعض التفاصيل الجديدة. كتمييز وزير الخارجية الروسي – السوري سيرغي لافروف بين "إرهابيي تحرير الشام / النصرة سابقاً" وبين الفصائل المعتدلة! نعم، هذا لافروف من يبدي شديد حرصه على التمييز، وهو وزير الدولة التي لم يميز طيرانها الحربي بين أبي بكر البغدادي وطفل واقف في الدور أمام أحد المخابز ليشتري الخبز، فقصف الطفل الإرهابي وأضاع أثر البغدادي. ولا بين مواقع جبهة النصرة والمستشفيات، فقصف الثانية المملوءة بالأطباء والجرحى الإرهابيين، وترك الأولى لعدم كفاية الأدلة على أنها إرهابية.

هذا الوزير السبعيني القادم من العصر السوفييتي العتيق يجيد الكذب بقدر ما يجيد طيران دولته القتل والتدمير وتجريب الأسلحة الروسية الخردة على المدنيين

هذا الوزير السبعيني القادم من العصر السوفييتي العتيق يجيد الكذب بقدر ما يجيد طيران دولته القتل والتدمير وتجريب الأسلحة الروسية الخردة على المدنيين. ها هو وقد عاد إلى هوايته المفضلة في اختراع سيناريو جديد لهجوم كيميائي سيقوم به "إرهابيو الخوذ البيضاء"، بتوجيه من بريطانيا، في إدلب، لكي يتهموا به نظام بشار الكيماوي البريء براءة الذئب من دم يوسف. إلى هذه الدرجة يعامل لافروف العالم باحتقار، ولسان حاله يقول: نعم، سوف نضرب إدلب، وبالسلاح الكيماوي إذا احتاج الأمر، وها نحن نكذب عليكم بصورة مسبقة، ولا خيار أمامكم غير التظاهر بأنكم تصدقوننا. وإلا فعليكم أن تمنعونا من ذلك، ونعرف أنكم لن تفعلوا.

هذا اللافروف نفسه، إذن، يبدي حرص طبيب جراح لاستئصال إرهابيي النصرة في إدلب، من غير إيقاع الأذى بالمعتدلين والمدنيين!

لماذا يفعل ذلك؟

لأنه، حالياً، في حوار مع نظيره التركي مولود شاويش أوغلو، فلا بأس من تسليفه بعض كلام لا يقدم ولا يؤخر، حفاظاً على ماء وجه الشريك التركي الذي سيبدو، حين يبدأ ضرب إدلب، كبالع الموس على الحدين. فلا هو قادر على إيقاف آلة الموت الروسية، ولا هو يستطيع الاستنجاد بالولايات المتحدة التي تمر علاقات بلاده معها بأخطر أزمة في تاريخ العلاقات بينهما.

والتقط الروسي لحظة الضعف التركية القصوى، حيث العلاقات مع الولايات المتحدة في أسوأ أحوالها والوضع الاقتصادي التركي ينذر بالخطر، ليفرض على أنقرة تجرع كأس المر على دفعات. لافروف شديد الارتياح لنتائج مباحثاته مع نظيره التركي. وتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين احتل مساحة أكبر، في المحادثات، من موضوع إدلب، كما نقلت وسائل الإعلام. موعد تسليم صواريخ s400، والتخفيف من إجراءات تأشيرة دخول الأتراك إلى روسيا، وغيرها من المواضيع "ذات الاهتمام المشترك" كما يقال في اللغة الإنشائية المسماة بالدبلوماسية. ولكن ما هو المقصود، في النهاية، بتمييز الإرهابيين من المعتدلين، مع العلم أن بوتين كان واضحاً بهذا الشأن، منذ بداية تدخله العسكري في سوريا، حين قال إنه ليس هناك معتدلون في الجماعات المسلحة التي تقاتل النظام، بل كلهم إرهابيون، مصيرهم هو التصفية؟

كل من يوافق على الانخراط في "العملية السياسية" الروسية في آستانة وسوتشي هو معتدل، وكل من يعارض ذلك هو إرهابي. هذا هو معيار التمييز الروسي بين "نوعي البشر" في إدلب

إذا قمنا باستبطان المنطق الروسي، فسنكون أمام النتيجة الآتية: كل من يوافق على الانخراط في "العملية السياسية" الروسية في آستانة وسوتشي هو معتدل، وكل من يعارض ذلك هو إرهابي. هذا هو معيار التمييز الروسي بين "نوعي البشر" في إدلب. نوع قابل للاستسلام لما تريده روسيا، ومصيره أن ينضم إلى جيش النظام الكيماوي المتهالك من أجل تقويته، ونوع يرفض هذا المصير فيعتبر إرهابياً حتى لو كان عمله طبيباً في مستشفى ميداني أو عاملاً في الإغاثة.

يخطئ من يظن أن الضغط على "تحرير الشام" أو محاربتها، من شأنهما أن ينقذا "الفصائل المعتدلة" أو المدنيين. كل ما في الأمر هو أن النظام الذي لا يملك القوات الكافية لاجتياح محافظة إدلب تحت غطاء الطيران الروسي، سيكون مرتاحاً إذا قام "المعتدلون" بتصفية "الإرهابيين" أو بالعكس. فالحرب بين الطرفين ستضعفهما معاً وقد تنتهي بتصفية أحدهما على يد الآخر، ليدخل النظام، بعد ذلك، بارتياح ويقطف الثمرة.

هذا هو مختصر الخطة الروسية التي يعبر عنها لافروف بطريقته الخاصة في التذاكي على حساب بلادة الآخرين أو عدم اهتمامهم

هذا هو مختصر الخطة الروسية التي يعبر عنها لافروف بطريقته الخاصة في التذاكي على حساب بلادة الآخرين أو عدم اهتمامهم. اقتلوا بعضكم بعضاً، لنعرف من سيفوز منكم بجائزة المليون!

أما تأخير حسم وضع إدلب المقرر وإطالة أمد "التشويق" الهوليودي بشأنها، فسببه أن موسكو تستخدم فزاعة "الكارثة الإنسانية" المتوقعة، أي تدفق 3 ملايين لاجئ جديد، لابتزاز الدول الأوروبية في موضوع إعادة الإعمار مقابل إعادة اللاجئين، ولابتزاز تركيا لكي تضغط على الفصائل المعتدلة المحسوبة عليها لكي تحارب إرهابيي النصرة.

ما الذي يمكن عمله في هذه الشروط؟

ليس الكثير. فلا الاستسلام ينفع مع عصابة التعفيش والثارات القروسطية، ولا المقاومة ممكنة في الشروط الحالية. ربما عدم تسهيل "النصر" للعدو الأسدي – الروسي هو الشيء الوحيد المتاح، مع العمل على تقليل الخسائر قدر الإمكان. وهو موقف يحتاج إلى ظُهراء دوليين أقوياء ليس هناك ما يضمن تحركهم في هذا الاتجاه. وقد رأينا الصيغة الشائنة لتحذير "ثلاثي العدوان الثلاثي" بشأن استخدام الكيماوي، تلك الصيغة التي تعني، بالنسبة للنظام وروسيا، ضوءا أخضر لضرب إدلب واجتياحها بكل أنواع الأسلحة ما عدا الكيماوي.   

ويا إدلب مالك غير الله.