لعل أغرب ما يمكن أن نقرأه في تعريف مجموعة «يوميات سجن صيدنايا» على فيسبوك هو ما كتبه مُنشِئها: «لا علاقة لنا بالسياسة»، بعد أن ذكر، في أحدث نسخ المنشور التعريفي بالمجموعة التي تشهد، مؤخراً، نشاطاً ملحوظاً، أنها «مخصصة لكل من يرغب بتدوين ذكريات سجن صيدنايا ولكل من يرغب بالمشاركة» بنشر مقالات كتبت في السجون، أو أدب كالشعر والقصة والخواطر.. وغير ذلك.
لا يمكن فهم هذه المفارقة إلا برؤية أوسع لخلفية المجموعة والتيار السياسي الذي ينتمي إليه معظم أعضائها الفاعلين ويمنحها صورتها العامة، وهو حزب العمل الشيوعي (الرابطة)، الذي شهد انقساماً حاداً بين كوادره السابقين بشأن الموقف من الثورة السورية، لم يخلُ من التخوين والاتهام بالوقوف إلى جانب القتلة. ويختلف تحديد هؤلاء بناء على جهة الاصطفاف؛ بين النظام وشركائه أو «النصرة والإخوان وحلفائهما». أسباب الانقسام عديدة، غير أن جذرها طائفي كما يرى الكثيرون، في جماعة اتسمت أصلاً بارتفاع عدد أبناء الأقليات بين منتسبيها مقارنة بنسبتهم العامة في البلاد.
ينقل أحد منشورات المجموعة هذا الحديث من تحت الطاولة إلى فوقها دون أن يهدف إلى ذلك، حين يقدّم مسحاً أجراه صاحبه، المختص في علم الاجتماع، على عينة من 291 معتقلاً للحزب، عندما كان سجيناً منهم في صيدنايا عام 1995، يتضمن توزعهم بين الطوائف، ومحافظاتهم، وشهاداتهم، ووضعهم العائلي. بين هذه العينة، التي ترقى إلى أن تكون شبه إحصاء نتيجة عددها الكبير نسبياً، قرابة النصف من العلويين، ونسبة ملحوظة من الإسماعيليين، بالإضافة إلى مسيحيين ودروز وأكراد، وحوالي 20% من العرب السنّة. فيما تقدّم النسخة الأخيرة من إحصاء توزع المتابعين جغرافيا، الذي ينشره المشرف دورياً نقلاً عن خدمة فيسبوك، مؤشرات أخرى ذات دلالة. فباستثناء مدن اللجوء تتدرج نسبة متابعي المجموعة داخل سوريا كما يلي: السويداء في الأعلى ثم دمشق ثم اللاذقية ثم سلمية ثم طرطوس ثم إدلب ثم الحسكة ثم حمص ثم حلب. ويمكن القول إن دمشق تحضر هنا بوصفها العاصمة التي تحوي خليطاً سكانياً متنوعاً.
ولكن ماذا ستفعل هذه المجموعة بعد أن أعلنت أنها سترفض نشر أي دراسة أو تحليل سياسيين، وأي «مقالات عن المعارضة أو النظام»؟ لا يزال هناك الكثير، في الحقيقة.
تطمح المجموعة إلى أن تكون مدونة ذكريات أو رواية جماعية، ولذا فهي ترحب بالشهادات، المؤلمة والحميمة والطريفة، التي يكتبها السجناء. وأحياناً يكتبها ذووهم عن الزيارات أو عن الغياب. يبحث أحدهم عن رفيق قديم انقطعت أخباره فيبلغه آخر أنه هاجر إلى كندا. يستذكر الكثيرون طيف من رحلوا، سواء تحت التعذيب أو نتيجة الأمراض بعد الخروج. لا تغيب النساء، سواء كرفيقات عشن تجربة سجنية موازية أو كزوجاتٍ وبناتٍ وأخوات. يتذكر نزلاء المجموعة محاولات غير مألوفة لإنجاز عروض مسرحية سرية بالإمكانات الفقيرة المتاحة للديكور والإضاءة، أو لصناعة أعواد من سحارات الفاكهة أو بيدونات الماء واستخدام النايلون لصناعة الأوتار. يستعيدون، هم المعروفون بثقافتهم المميزة، قصصاً وأشعاراً وترجمات أنجزوها، وكتباً قرؤوها، وليالٍ من العتمة كانوا يتحايلون عليها بأي احتفال ممكن، وخاصة في ليلة رأس السنة التي يدّخرون لها أفضل ما يتوافر من طعام، ومشروبات كحولية مهجعية التخمير.
لن يمرّ سوى عِقدٌ واحدٌ حتى تنقلب طبيعة السجن كلياً. مع الألفية الجديدة التي افتتحت بتفجيرات الحادي عشر من أيلول، ثم بالغزو الأميركي للعراق الذي حرّض جهادية سورية عابرة للحدود، سيزدحم صيدنايا باللحى. وفي الأجنحة التي شهدت سابقاً تدريبات على مسرحية لتشيخوف ستدور نقاشات بين تيارات مختلفة من السلفية الجهادية وبينهم وبين إسلاميين آخرين.
لا شيء أغرب من هذا، ولا أبعد عن تفكير أعضاء مجموعتنا الذين سموها بحسن نية لا مزيد عليه، غافلين عن أن ما صار يتبادر إلى الذهن فور الحديث عن «جماعة صيدنايا» هو مزيج النصرة وداعش وأحرار الشام... إلخ.
ربما هي الصدفة، أو طبيعة الانتشار عبر دعوات متسلسلة، هي ما حال بين «الإخوة» وبين دخول مجموعة احتكرت سجنهم الذين يعدّونه «أكاديمية» صنعتهم وصقلتهم، وتحتل تجربة الاستيلاء عليه، أثناء الاستعصاء في عام 2008، مكاناً محورياً في ذاكرتهم عنه، لا رسم اللوحات وصناعة الأقراط ونحت التماثيل. سيكون مشهداً غرائبياً لو جمعتَ أبناء الصيدنايتين، وفي الجيل الأحدث تكفيريون، بينما يعدّ أكثر أبناء الجيل الأقدم أنفسهم منفتحين إذا مدحوا رفيقاً من الحزب الشيوعي–المكتب السياسي (رياض الترك).
غير أن هذا الحظ الطيب لن يحالف بعض أهالي معتقلي الثورة، اللائبين بين الصفحات التي تحمل اسم صيدنايا يتساءلون بقلق، ودون تأمل في منشورات المجموعة، عن أي خبر عن أبنائهم. غير أنهم لن يلقوا هنا إلا الأمنيات الطيبة والصمت. فسكان المجموعة صاروا كهولاً متعَبين ومقلّعي الأضراس، يريدون أن يمضوا تقاعدهم بهدوء.
وبخلاف من عددناهم الجيل الثاني من الصيدناويين، أي الجهاديين الذين كانوا من منابت محددة، عربية سنّية، ريفية غالباً، فإن جيل معتقلي صيدنايا الثالث بعد الثورة أشد تنوعاً بما لا يقاس. يقول سجين غير سوري، عاصر هذه المراحل كلها، إن صيدنايا كان يضم «النخب»، بأوسع المعاني المتاحة، قبل الثورة، أما بعدها فقد دخله الشعب كله! وبدهي أن مسيرة انحداره تسارعت بعنف حينها، منذ تأسيسه عام 1987 كسجن «معقول»، يقضي فيه أعضاء جماعة الإخوان المسلمين مدة نقاهة قبل الإفراج عنهم، بعد تجربتهم التدمرية المركزية الفظيعة، إلى «مسلخ بشري» وفق التعبير الموفق، للأسف، لمنظمة العفو الدولية.
لا مكان أنسب لرصد تجربة السياسة السورية، بتوجهاتها وأجيالها في ظل الأسدين، من سجن صيدنايا. بهذه التيارات والحركات التي ذكرناها وبالكثير من القضايا الأقل ذيوعاً وتأثيراً: حزب التحرير، البعث اليميني، البعث الديمقراطي، أحزاب كردية، ضباط بتهم انقلابية، ناشطو مجتمع مدني وحقوق إنسان وإصلاحات، لبنانيون وفلسطينيون، العديد من المجموعات الصغيرة والدعاوى الفردية تائهة التصنيف. لكن إذا كان الصيدناويون أنفسهم غير قادرين على الاجتماع، حتى في فيسبوك، فهذا دليل إضافي على أن طريقنا طويل وغائم وعسير!