عن أكثر من بيروت وأكثر من جيل

2020.08.16 | 00:05 دمشق

000_1wa8ze_0.jpg
+A
حجم الخط
-A

عام 1991 عندما انتهت الحرب نزلنا إلى وسط بيروت المدمّر: أشجار جهنّميّة تندلع من الأرصفة ومن الطوابق العلويّة للبنايات الخالية، طبقات جيولوجيّة من الركام يمكن تصنيفها: حقبة حرب السنتين، أواخر السبعينات، بعد 1982، بعد 1985، المعركة الأخيرة.. مياه آسنة تغمر المسطّحات، وحول وحطام من كلّ شيء، ولون رمادي قذر يغطّي كل شيء. مداخل غامضة وفجوات مظلمة وظلال مخيفة بهدوئها الشيطاني. معادن ملتوية ناتئة من هنا وهناك وصدأ عميم وشظايا نخرت كلّ مكان، وآثار حرائق مرّت عليها شتاءات لا تحصى، وأغراض قديمة حمّصتها شمس أصياف عديدة، ومعلّبات فارغة متحلّلة لمقاتلين لن نعرف من بقي منهم حيّاً ومن مات هنا.

كان مشهداً "أبوكاليبسيّاً" مهملاً ومنطفئاً، أخذنا فيه صوراً تذكاريّة وعدنا.

حينها أدركنا أن لا "عودة" إلى الوسط: علينا ابتكار وسط آخر جديد.

مع ولادة ابني عام 1993، كانت الجرّافات قد بدأت العمل في وسط بيروت، لإزالة دمار 15 سنة حرب. ومع بداية تعلّمه المشي بعد عام، وُضع الحجر الأساس لإعادة إعمار ذاك الوسط. كانت المدينة تكتسب بسرعة بريقاً جديداً: عمليات إخلاء المهجّرين من أماكن حيويّة، ترميم العمارات وإعادة الرونق إلى شرفاتها، إزالة التعدّيات، طلاء الجدران وتنظيفها، تبليط الأرصفة، نصب أعمدة الإنارة، ترتيب الأسلاك وإزالة العشوائيات، ظهور عمال النظافة ونشر سلال القمامة والحاويات وازدهار أعمال التنظيف والتجميل، تجديد الواجهات، إزالة العوائق والسواتر ومحو الشعارات عن الحيطان، إصلاح المجارير وخطوط الهاتف، زرع الأشجار، واستعادة نسبيّة لهيبة رجال الشرطة وتنظيم المرور وقمع المخالفات.

نتج عن ذلك أيضاً فتح الطرقات وبدء اندفاع اللبنانيين إلى ما يشبه "السياحة الداخليّة"، مع ظهور ملحوظ لأجانب وعرب وجنسيات كثيرة في الشوارع والأماكن العموميّة. كانت المدينة تستعيد، ببطء، غرباءها وتتخلّى عن بعض "أهليّتها".

بدأ الناس بنفض غبار الحرب. سائقو التكسيات راحوا يستغنون عن سياراتهم المرسيدس المحطّمة والمهلهلة والخربة ويقتنون الجديدة منها. النسوة بدون أكثر ارتياحاً إذ أقبلن على الإكثار من المظهر الجريء والمرح في هيئاتهنّ وملبسهنّ. الرجال أيضاً بدوا أكثر أناقة، كذلك ظهر جيل من الشبّان الجدد الذين حصلوا على وظائف جديدة في أعمال جديدة تقتضي منهم ارتداء البدلات الرسميّة وربطات العنق. كانوا مزهوين بأنفسهم إذ يدركون أنهم مختلفون عنّا نحن الذين قولبتهم الحرب في مسارات يوميّة ضيّقة وحذرة، وهم ينطلقون بجدّتهم مع كلّ الجديد الوافد إلى المدينة: المهرجانات الفنّيّة، الحفلات في الهواء الطلق، ارتياد الأماكن البعيدة للسهر.. وصاحب كلّ ذلك تقنيات جديدة وثقافة جديدة: القنوات الفضائيّة، التلفون المحمول، الكومبيوتر، كلّها زوّدتهم بهويّة مُفارقة عن هويّة الماضي. وكان كلّ هذا يتمّ بسرعة مدوّخة.

في تلك السنوات القليلة، وعلى غفلة من مخطّط "إعادة البناء والإعمار" والوسط وعلى غفلة من سيكولوجيّة "بيروت الشرقيّة" وبيروت الغربيّة" (الانقسام الحربي بين شطري العاصمة)، كانت الأضواء تندلع، ضوءاً وراء ضوء، في شارع خلفي، شبه منسيّ، هناك عند تخوم الأشرفيّة، وعلى حدود الوسط، ما بين شارعي عبد الوهاب الإنكليزي ومونو. هناك تشكّلت ماكيت لم يصنعها ولم يصممها أحد تدخل حيّز التنفيذ العفوي. حيّزا معماريا لم تنل منه الحرب تماماً. كان طابعه "التراثي" والنموذجي لبيروت "المسيحيّة" (إذا صحّ التعبير)، البرجوازيّة، المتوسّطيّة والكولونياليّة، يستجيب في مظهره وعمرانه لكل ذاك "الحنين" الذي صنعته المخيّلة عن بيروت ما قبل الحرب.

ومن هناك، ستكون بداية بيروت بعد الحرب، بداية صاخبة بالكحول والموسيقا والشباب. وهناك، سيلتقي مثقفو الشرقية والغربية، الموسيقيون الجدد والمسرحيون الجدد والصحافيون الجدد، ومصممو الأزياء الذين برزوا فجأة كـ "موضة" ثقافية كاسحة حولتهم إلى مشاهير وصنّاع "صورة" لبنان الغد. وهناك سيجد "الحب الحر" رصيفه. كذلك سنكتشف هناك مجتمعاً جديداً صاعداً، هو مجتمع "اليوبيز"، رجال الأعمال الشبان بمظاهر ثرائهم واحتفاليتهم الدائمة بأنفسهم وقد تحوّلوا إلى مثالات لـ "النجاح" و"القدوة" في طموحاتهم وفي أخلاقهم وفي قيمهم.

في ذلك الحيّز كانت المدينة الجديدة تختمر أيضاً باليساريين السابقين وقد أنهوا "مراجعاتهم" في الليبرالية والديموقراطية، وباليمينيين السابقين وقد تخففوا من اعتصابهم الفاشي، وبالمناضلين الجدد من طلاب الجامعات.

هناك في ليل "مونو" كانت ترتسم مخططات لبنان المستقبل. ففي السياسة بدأت معركة الحريات ورفض "الوصاية" (الاحتلال الأسدي للبنان)، وفي المجتمع بدأت معركة التحرّر الفردي والقيم الليبرالية، وفي الاقتصاد بدأت معركة "السياحة" ونظام "الخدمات"، وفي الثقافة بدأت معركة العمران والماكيتات البديلة. والأهم هو ولادة حيز "التعارف" الوطني بين شطري العاصمة، حيز مشترك وتواصلي – تبادلي كأنّه وسط مدينة افتراضي ينشط في ساعات العتمة.

كبر مجتمع "مونو" وامتد إلى الجميزة ومار مخايل. وعلى مدى السنوات السابقة بتّ مؤمناً أن هذه الـ"بيروت" ليس مدينتي، إنّها مدينة ابني. رحت أتخيّله، هو وجيله، يؤلّفون حياة لوسط المدينة ولهم غير تلك التي عشناها. حياة يصنعون فيها تلك الروابط الخفية بين معالم المدينة وأجزائها، يصنعون ذاكرة أرصفة وشرفات ومداخل ومخارج وفضاءات، ذاكرة زواريب وشوارع وأسطح وغرف وحوادث وبشر ومصائر وحكايات. رحت أتخيّل "المهمّة" الشاقة التي على ابني أن ينفّذها: هندسة حياة تجتاز المدينة وتضفي عليها أنفاساً حارة وعواطف توحّدها وتلحم أجزاءها.

اليوم، انتهت سيرة تلك المغامرة بالانفجار الذي دمر قلب بيروت. عاد ابني على نحو مأسوي ليستأنف سيرتي ذاتها مع بيروت المدمرة.