عن أحلامنا بثورة أقل شأناً

2021.03.16 | 19:05 دمشق

20210315_2_47348811_63403453.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم تطمح الثورة السورية، بمقاربة تعميمية، أن تكون شأنا عظيما كما هي عليه اليوم. لم تفكر بسنوات عشر، وتضحيات جسام، وذاكرة جمعيّة مع هذا العدد اللامتناهي من الشهداء، والجرحى، والمهجرين، والمنكوبين. لم يخطر ببال مُطلقيها في دمشق أو درعا أنهم قد يتنافسون على تسميتها وتأريخها ويخصصون وقتا وجهدا وأعصابا مستنفرة في حسم جدلٍ دائمٍ عن ثنائية 15/18.

لم تطمح الثورة لأن تصبح "ثورة" بالمعنى الحقيقي للكلمة، فلهذه الكلمة حمولاتها العسكرتاريّة البغيضة في الفعل السياسي السوري، وتحمل بدلالتها اللغوية والمصطلحية دلالات الهياج، والفوَران، وكل المصلحات السيئة، أما تعريفاتها السيسيولوجية، فترتبط بمصطلحات الهدم، والانقلاب، وبناء نظام جديد كليا، وهي أمور تفزع الشخصية السورية التي اعتادت التسويات حتى أضحت خاصية أنثروبولوجية ملازمة للشعوب المتنوعة التي سكنت الشام الكبرى.

أدرك السوريون باكرا أن معادلة " نتظاهر، ينحاز الجيش، يتنحى الرئيس" غير ممكنة في جمهورية سلطانية كسوريا. وعليه، ضبطوا سقف أحلامهم وطموحاتهم بما يتناسب مع فعلهم السياسي في تاريخهم الحديث قبل البعث.

تنبّه السوريون لما حولهم من حراك في تونس ومصر، وتنبهوا أيضا لأوضاعهم الاقتصادية المتدهورة ومكانتهم السياسية المتراجعة داخل بلدهم وخارجها. أرادوا أن يكون لهم فعلهم السياسي الذي يكسر الجمود ويفتح الباب للإصلاح، والإصلاح فقط. لم يكن المتظاهرون راغبين في إسقاط النظام آنذاك، ليس حبا فيه بل كرها بما سيترتب على الثورة ضدها من نتائج.

أدركوا باكرا أن معادلة " نتظاهر، ينحاز الجيش، يتنحى الرئيس" غير ممكنة في جمهورية سلطانية كسوريا. وعليه، ضبطوا سقف أحلامهم وطموحاتهم بما يتناسب مع فعلهم السياسي في تاريخهم الحديث قبل البعث. فكّروا بمظاهرات كبيرة أو "إضراب ستينيّ"، بثورة أطراف تضغط على العاصمة كثورة عام 1925 الكبرى، وفي أفضل الأحوال بضابط مغرور ضمن العائلة يقود رفاقه نحو الإذاعة والتلفزيون؛ ليستبدل ديكتاتورا بآخر، من دون أن يورط الشعب بمواجهة غير محسوبة، فحتى القوى السياسية التقليدية لم تفكر بالثورة أيضا، فالإخوان المسلمون، كما تقول شهاداتهم، أرسلوا لبشار الأسد أن اعتبِرْ مما يجري، وهيّا نعقد صفقة تُنقذك وتعيدنا، في حين كان أقصى طموحات الأحزاب اليسارية والليبرالية أن يجتمعوا في القريّا عند ضريح سلطان باشا الأطرش؛ ليتلوا بيانا يطالب بفتح الحياة السياسية، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور القديم.

بإرهاصاتها الأولى في الحريقة والسفارة الليبية أو بعد انطلاقتها، كان ثمّة نزوع جَمْعيّ، غير منظّم بالطبع، لضبط الشعارات والأهداف بما يسمح بإنجاز تسوية مع النظام لبدء إصلاح يقوده الأخير، إذ تمنّتْ غالبية السوريين على النظام أن يتغيَّر لا أن يُغيّروه بأنفسهم، وأعطوه الفرصة بعد الأخرى لِيُثبتوا بدمائهم أن خيار القمع الأمني لن يُجدي معهم نفعا، وأن عليه هو أن يقدّم لهم خيارات بديلة.

لم يُرفع شعار إسقاط النظام حتى تاريخ الجمعة العظيمة، في 22 من نيسان/ أبريل 2011، عندما توافرت قناعة لدى الثائرين في كامل الجغرافيا السورية أن النظام لن يتغيّر، وأن عليهم مسؤولية تاريخية لتغييره، وأن حراكهم الذي يتوسع كلَّ يوم سيكون الأخير إذا انتصر النظام. بعد المجزرة وفشل سيناريو تثوير المدن واستنساخ ميدان التحرير في ساحة العباسيين في دمشق، بدأت الثورة السورية بمسمّاها التاريخي الحالي مُستهدفةً النظامَ السياسي ظاهريا، لكنها في الواقع كانت تحفر الأرض تحت دولته في مَسعىً للهدم والبناء الجديد. حدث ذلك؛ لأن النظام ماهَى بينَ الدولةِ والنظام من جهة، والنظامِ وشريحةٍ اجتماعية معيّنة من جهة أخرى، وأخذهما رهينة لبقاء الرئيس، فأضحى أيُّ حراكٍ يسعى لإسقاط الأخير هو انقلابٌ يَمَسُّ الدولة والمجتمع في آن معا.

هنا بدأت الأسئلة المعقدة، وازدادت تعقيدا مع انخراط المؤسسة العسكرية في قمع الاحتجاجات السلمية وتفريخ ميليشيات ذات صبغة طائفية خارج الدولة لمواجهة الحراك، فالحل الأمني الذي لم ينجح في قمع الاحتجاجات، والكلام هنا لضباط ومسؤولين في النظام أعطوا شهادتهم لمجموعة الأزمات الدولية، فَشِلَ فقط؛ لأن كميَّة العنف المُطبَّقة لم تكن كافية، وأن استراتيجيات البقاء تتطلب خيارات مختلفة. زَجَّتِ الدولة جميع مقدّراتها وشبكاتها الاجتماعية وراء خيار القمع، وكان هدفها دفع الحراك السلميّ للتسلح بهدف إفقاده مبرراته الأخلاقية وقمعه كتمرد مسلح، وهذا ما حصل لاحقا مع فارق بسيط أن النزوع إلى التسلح كان أكبر من قدرة النظام على ضبطه، وبالتالي فشل سيناريو حماة. وأضحتِ المعضلة أكثرَ تعقيداً؛ فمشكلةُ السوريين لم تعد مع نظام الأسد بل مع الدولة، إذ غَدا التفريق بينهما تنظيرا لا مكانَ له في الواقع، ليبدأ معها النقاش الكبير عن الطريقة الأمثل للتعامل معها: الهدم البنيويّ الكامل، إعادة الإصلاح.

كان على الثورة أن تتعامل مع التأزّم والاستقطاب الإقليمي الذي غادرَ مربَّعَ الاعتدال مقابل الممانعة إلى تصنيفاتٍ أخرى أكثرَ تعقيدا. تنافست المعارضة السورية على الدعم الإقليمي وتنافس اللاعبون الإقليميون عليها وعلى طريقة توظيفها.

ولأن خيار التسلح كان عفويا وبأهداف وطنية لا حزبية كما حصل خلال الثمانينيات، أمكن هزيمة النظام عسكريا منذ منتصف عام 2012 مع خروج مساحات جغرافية كبيرة عن سيطرته واقتراب مقاتلي الجيش الحر من العاصمة. في بدايته، انعكس تشتُّتُ وتشرذُمُ العمل المسلح بنتائجَ إيجابيةٍ على أنصاره؛ إذ أدخل النظامَ في حرب عصابات لم يَخبرها على المستوى الوطني من قبل، ومع ملامح النشوة والانتصار بالإضافة إلى بروز بعض ظواهر العنف الاجتماعي أضحى التفكير بتنظيم السلاح ومأسسته حاجة لإكمال المسار أولا، وبناء الدولة خارج منظومة الاستبداد القائمة ثانيا. آنذاك، كان خيار التسوية ما يزال قائما ومطروحا داخليا وعربيا، شريطة رحيل بشار الأسد، لكن الأخير الذي احتكر النظام والدولة قرر المواجهة من خلال الامتداد الطائفي الإقليمي.

تدخلت إيران وحزب الله والميليشيات العراقية واستخدموا لتبرير تدخلهم خطابا طائفيا تماهى مع الخطاب الفئوي للنظام واعتماده على عصبويَّات طائفية لمواجهة ظاهرة الانشقاقات وتعويض العنصر البشري. ويبدو أن وجود هذا النهج التطييفيّ كان فرصة الحركات الجهادية لركوب الموجة، وهي التي وقفت لأكثر من عام عاجزةً عن تقديم مشروع بديل للثورة على مستوى الخطاب والمنهج، وكان على الثورة السورية أن تواجه خيار التطييفِ الممنهج أولا، وتحلّ مسألة التدخل الإقليمي ثانية، واستخدام فلسطين والمقاومة ذريعة لقتل الشعب السوري، وفي كل ذلك امتحان أخلاقي كبير لم تفشل فيه رغم كل الأخطاء. ومع سيطرة الحركات الإسلامية والجهادية على المشهد العسكري، قُدّر للثورة السورية أن تناضل من أجل بقاء المشروع الوطني حاضرا لجميع السوريين وليس وفقا لتصنيفات الإسلاميين الحركيين وميولهم وتفسيراتهم. لقد استغرق ذلك وقتا وجهدا ودماء وجولات كثيرة حتى ركنت الفصائل الإسلامية راغبة أو مُرغمة إلى أصوات العقل، وأعملت المراجعات في برامجها الفكرية ومشاريعها المستقبلية.

بعد ذلك، كان على الثورة أن تتعامل مع التأزّم والاستقطاب الإقليمي الذي غادرَ مربَّعَ الاعتدال مقابل الممانعة إلى تصنيفاتٍ أخرى أكثرَ تعقيدا. تنافست المعارضة السورية على الدعم الإقليمي وتنافس اللاعبون الإقليميون عليها وعلى طريقة توظيفها، وهو الأمر الذي ساهم في منع تبلور قيادة سياسية وعسكرية تُمَأسِسُ الكفاحَ المسلح، وتُؤطِّرُ المشروع الوطني لسوريا المستقبل.

في عام 2015، قُدّر للثورة السورية أيضا أن تتعامل مع أول تدخلٍ عسكري لروسيا خارج نطاقها الجيوسياسي المعروف؛ بُغية العودة لاعبا جيوستراتيجيا مهما على الساحة الدولية، وقُدّر لها أيضا أن تتعامل مع تناقضات منْ يُسمَّون أصدقاءها بعد وصول ترامب إلى الحكم، وما نجم عنه من أزمات وصراعات بَينيّة همّشت سوريا كقضية وثورةٍ قُدّر لها أن تتعامل مع داعش وخلافته، والنصرة وحكومتِها الإنقاذيّة في إدلب، ومع حزب الاتحاد الديمقراطي وإدارته الذاتية وأن تطردَ أو تمانع كل هذه المشاريع المرتبطة بالخارج، كما حُكِم على بعض مقاتليها أن يكونوا بيادقَ لقوىً إقليميةٍ ودولية وفي ساحاتٍ لا علاقةَ لها بسوريا أو صراعها، وقُدّر لها أن تكون أكبرَ أزمةٍ إنسانية على مستوى اللجوء والنزوح والتدمير، وأن يعيش أكثرُ من نصف مواطنيها في المنافي الإجبارية وبلدانِ الاغتراب. كان على الثورة السورية أن تعيد تعريف الوطن على أساس الفرد ودوره ووعي انتمائه خارج الجغرافيا. قُدّر لها أن تنوءَ بما تستطيع قضية أخرى تحمّله سواء على مستوى التعقيد أو على مستوى تشابُكِ الملفات الداخلية. وبعد عشرٍ عِجاف، ما يزال الشعب السوري في كل مكان خارج النظام يَخرج متمسّكا بمبادئها، وبإصرارٍ لا يُهزم على الإكمال. كنّا نطمح لثورة أقلَّ شأنا تحلّ قضاياها بالتدريج أسوة بكل تجاربِ العالم الأخرى، لكننا وجدنا أنفسنا أمام ثورة استثنائية في عَظمتها وإصرارِها على الاستمرار ودخولِ التاريخ لأول مرة كدولةٍ أمَّةٍ قابلة للحياة، دولة لكل مواطنيها.