عن آباء وأبناء إدلب بعيداً عن سوداوية النصرة وديركي

2019.03.17 | 23:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ما إن وصل حمزة حمد أبو لطفي إلى منزله في مدينة سرمدا شمال إدلب، عائداً من احتفالية الذكرى الثامنة للثورة السورية، حتى يجد صورته مع ولديه يعلوهم علم الثورة قد ملأت كل حسابات الثوار على وسائل التواصل الاجتماعي، ومع نظرة هبة لوالدها لم يعد ينقص الصورة شيء لتكون رمزاً للذكرى وانتقاماً كافياً من سوداوية القاعدة التي غمس بها طلال ديركي عدسة كاميرته ودهن بها إدلب قاطبة أمام العالم البعيد عن واقعنا والقريب من صالات السينما.

ساق الله غيمة ماطرة إلى مظاهرة سرمدا، ليقتنص المصور عمار الزير اللقطة التي لم أشبع من النظر إليها، وفي الوقت الذي كنت أبحث فيه عن مكان لطباعتها لأعلقها في منزلي، دخل علي صديقي محمد حاج بكري ليقول لي إن هذه اللوحة تستحق بجدارة عنوان "عن الآباء والأبناء".

حمى عضو مجلس مدينة سرمدا الصاخبة حمزة حمد ولديه بعلم الثورة السورية، في مشهد يختزل قصة إدلب اليوم، القصة التي باتت حديث العالم والتي لم يستطع أحد روايتها حتى الآن، وكانت آخر الروايات هي الهدية التي قدمها ديركي في فلمه لبوتين والأسد والجولاني واليمين المتنامي غرباً (لكل أعدائنا بلا استثناء).

قدّم ديركي فيلمه التمثيلي على أنه فلم وثائقي، وكيف أن "أبو أسامة" سلم الراية قبل أن تنفجر به العبوة الناسفة إلى ولديه، وأوصى إليهم بالمحافظة على أمجاد ابن لادن، وأن هذه إدلبكم باختصار.

حمى عضو مجلس مدينة سرمدا الصاخبة حمزة حمد ولديه بعلم الثورة السورية، في مشهد يختزل قصة إدلب اليوم، القصة التي باتت حديث العالم والتي لم يستطع أحد روايتها حتى الآن

حسين حبوش أو أبو أسامة، بدا واضحاَ في حكاية ديركي "العاقة" – كما وصفها أحمد أبازيد-، أنه أحد هواة السلفية والمتمثلة بتنظيم القاعدة، ولم يكن بالنسبة لي سوى أحد البسطاء من ضحايا الموجة التي غمرت إدلب في الفترة ما بين 2013 و2014، ليعدل بعدها الآلاف عن تفكيرهم ووجهة نظرهم حول السلفية الجهادية وحركاتها من جبهة النصرة وداعش.

أما أسامة الذي لبس "الشيشانية" في المعسكر المُصطنع الذي يفتقر "للمربى والتمر الموجودين في معسكر أبو حمزة"؛ فقد بدا مثل أي طفل في الريف الإدلبي، بسيطاً بعيداً عن معتقدات والده وتنبؤاته بحرب عالمية ثالثة، وذلك عندما قال مخاطباً باقي الصبية، "قالولنا بكرة بدنا نضرب عليكن رشاً مالنا علاقة إذا صبنا حدي بين رجليه"، ليكمل "إذا بيضرط حدا فص منخاف منه".

ليظهر أسامة بعد ذلك في الدقيقة الأولى بعد الساعة الأولى من الفيلم، وهو يبكي في المعسكر ويقول "كل شي نحن ما منعمله بحطو فينا"، وكأنه يخاطب ديركي الذي بات في منزلهم عشرات الأيام.

كان من الواجب الوطني والأخلاقي لديركي ألا يضع طموحه الشخصي عبر حكايته العاقة التي يراها مرغوبة وفريدة في صالات السينما العالمية، أمام مصلحة أبناء بلده، الذين قارعوا الأسد والسواد، وأصروا ألا يكونوا تلك الضحية التي تتقاذفها شفقة الخطابات ونفاق البيانات الرسمية.

سيغض ديركي الطرف عن حكاية "أبو لطفي" وولديه، وينوح في شوارع برلين حاملاً تمثال الأوسكار الذي صنعه لنفسه من الخشب أو التمر ليعبده، مردداً جملة الخاتمة "الوطن الذي تغيرت معالمه بطريقة مرعبة – لا يشبه مطلقاً ذاك الذي أعرفه .... الوطن الذي تغيرت معالمه بطريقة مرعبة – لا يشبه مطلقاً ذاك الذي أعرفه".

ربما نورس وهبة كانا بعمر السنتين والخمس عند انطلاقة الثورة السورية، لم يكونا ضحية فكر عفن أو عدسة تسعى لمجد شخصي، كانا وردتين سقاهما أبو لطفي ثورةً، ففاح كل ما بهما عبقاً يكفي إدلب قاطبة بأن تمحي سوادها المؤقت.

سيغض ديركي الطرف عن حكاية "أبو لطفي" وولديه، وينوح في شوارع برلين حاملاً تمثال الأوسكار الذي صنعه لنفسه من الخشب أو التمر ليعبده، مردداً جملة الخاتمة "الوطن الذي تغيرت معالمه بطريقة مرعبة – لا يشبه مطلقاً ذاك الذي أعرفه"

رسمت أم لطفي علم الثورة على وجنة هبة على عجالة عند باب الدار، لكن العلم على وجه هبة يحتاج بروتوكولات كاملة وكرنفالاً عسكرياً بحضور آلاف الجنرالات ومئات الطبول وملايين العسكر الذين يعلو صوتهم صرير جنازير الدبابات ومحركات الطائرات.

كان من الواجب ألا يتم رفع علم الثورة على وجنة هبة دون أن يجتمع قادة الجيش الوطني وقادة الجبهة الوطنية ووزراء الحكومة المؤقتة وأعضاء الائتلاف وهيئة التفاوض السورية، ومئات آلاف الثوار.

تقول دراسة ثورية إن المتزوجين من الثوار أقل عرضة للإصابة باليأس والسرطان، لأنهم يرون أطفالهم يكبرون يوماً بعد يوم بإيمان متجذّر بالثورة وسوريا، ويحملون الراية بعد نصف مليون شهيد ونصف مليون آخر معتقل كي لا تضيع صرخات أهاليهم لأجل الحرية سدى، فتزوجوا يا ثوار وأنجبوا لنا أطفالاً كنورس وهبة، كونوا كأبي لطفي، وأغيظوا بهم كل الذين أسعدهم مشاهدة فيلم "عن الآباء والأبناء"، وأكملوا الحكاية.