عندما يكفرُ شباب الثورات بأوطانهم وقضاياهم.. لماذا؟

2022.06.19 | 05:46 دمشق

mzahrt-fy-mdynt-albab-bryf-hlb-17-adhar-2019.jpg
+A
حجم الخط
-A

ماذا عساها تنفعُ الكلماتُ أمام قسوة الخيبات التي تعتلج في صدور شباب الثّورات؟ لكنّها ـ أي الكلمات ـ تبقى في زمن النّدم زاد الطّالبين، ومنارة المسترشدين، ودليل الحيارى الذي يفصح عن رسائل الرّشد، ويوضّح السّبيل، وتنادي التّائهين المخذولين: من هنا الطّريق.

  • بين المستبدّين والانتهازيّين

أمران يدفعان الشّباب إلى إعلان أو استبطان الكفر بأوطانهم؛ الأوّل: هو استعلاءُ المحتلّ أو المستبدّ المجرم وإغلاق الأبواب في وجه التّغيير، ومعاينة تكالب العالم المنافق ومساندته للمجرم مما يفجّر شعور اللّاجدوى من العمل، وقد تعاظم هذا الشّعور عقب جولة الثّورة المضادة التي أصابت كثيرا من الشّباب الطامح للتغيير بالإحباط والانتكاس وصولًا إلى شعور البعض بالنّدم.

والأمر الثّاني: هو انتهازيّة بعض حملة هذه القضايا العادلة والمنافحين عنها، وهؤلاء الانتهازيون في كثير من الأحيان يتصدّرون المشهد ممّا يجعل ثلّةً من الشّباب يتراجعون خطوة إلى الوراء ويقرّرون الانكفاء على الذّات، لشعورهم الضّمني أنَّ هذه الأوطان التي تقدّم هؤلاء وتصدّرهم لا تستحقّ التّضحية والبذل والعطاء.

  • اغتيال الوطن والاستقالة من القضيّة

وهنا يتقدّم خطابٌ على وسائل التّواصل يعلن فيه شبابٌ ممن عرفتهم ساحات البذل يومًا كفرهم بهذه الأوطان التي ما فتئت تقسو عليهم وتسلبهم أعمارهم دون ثمرةٍ ملموسةٍ أو نتائج مرتجاة؛ فيلقي كثيرٌ من الشّباب الحبل على الغارب ويقرّرون اغتيال أوطانهم بالسّفر كما قال نزار قبّاني يومًا:

قرّرتُ

يا وطني اغتيالَكَ بالسفَرْ

وحجزتُ تذكرتي

وودّعتُ السّنابلَ، والجداولَ، والشَّجرْ

وأخذتُ في جيبي تصاويرَ الحقولِ

أخذتُ إمضاءَ القمرْ

وأخذتُ وجهَ حبيبتي

وأخذتُ رائحةَ المطرْ

قلبي عليكَ .. وأنتَ يا وطني تنامُ على حَجَرْ

 

فهذه الأوطان القاسية التي تمكّن للانتهازيين، والتي لا يجد فيها الشّباب أنفسهم ولا ذواتهم تستحقّ اغتيالها بالسّفر.

والأخطر من ذلك أن يقرّر هؤلاء الشّباب في ردّة فعل عنيفةٍ علنيّة أو سريّةٍ الاستقالة من القضايا التي يحملونَها؛ فيلتفتون إلى أنفسهم بالكليّة ويقنعون ذواتهم أنّهم أوفوا الكيل وبذلوا بالصّاع الوافي، وأنَّ عليهم الآن التفكير بمستقبلهم الذّاتيّ فحسب وبناء حياتهم وعدم الانشغال بما لم يعد له قيمة في ظل غياب أيّ أفق أو جدوى.

وعلى قَدَرٍ تأتي دماء ومواقف وتضحيات بعضُ الشباب الطّامح في بلادنا المكلومة ما زالوا قابضين على جمر القضية ثابتين على العهد والمبدأ؛ في الضّفة الغربيّة المخنوقة أو غزّة المُحاصرة في فلسطين أو في سوريا المكلومة أو في مصر الجريحة أو غيرها من بلادنا المتسربلة بثوب الطغيان؛ لتقول لكلّ من يعيشُ هذا المعنى قرارًا وسلوكًا، ولكلّ من تتصارع في نفسه هذه الأفكار كلّما نظر إلى الواقع المحبط من حولِه:

ويحكم أفيقوا، هل رأيتم أقسى من حال أهل الضّفة الرّازحة تحت احتلال يملك من الإمكانات الاستخبارية ما لا تملكه أكثر جيوش العالم اليوم؛ فما أرهبَ هذا ولا فتّ في عضد الشباب التوّاقين إلى الحياة؛ ولكن إلى حياةٍ كالحياة، لا هوان فيها ولا استخذاء ولا استجداء.

وهل رأيتم انتهازيًّا أعظم من السلطة التي تتربّع على صدر الضفة باسم النّضال، وتطارد المقاومين باسم النّضال، وتنسّق مع العدوّ باسم النّضال؟!

وهل رأيتم أعتى وأشدّ وأقسى من نظام الأسد وزبانيته؟ ومخابرات النّظام المصري وجلاوزته؟

لو كانت الاستقالة من هموم الأوطان وقضاياه تُبرَّرُ لأحدٍ لكانت مبرّرةً لهؤلاء الذين يعيشون أقسى صنوف المستحيل، ومع ذلك حطّموا سلاسل المحال ليغدو واقعًا، وكانت الوجهة عند هؤلاء واضحة، والقصدُ عاليًا كالشّمس في رابعة النّهار، فلم يقيلوا ولم يستقيلوا، وكان الدّربُ المعبّد بالدّم أمامهم واضحةٌ نهايتُه، ومع ذلك خاضوه بكلّ اقتدارٍ وشموخٍ وإباء.

ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ولكنّ أوطانهم كانت هي الصّدر الحاني رغم كلّ الغرباء  الجاثمين على روحها، وكانوا قادرين على التّفريق بينَ الوطن وبين الغزاة والطّغاة والانتهازيين، وكانوا يزدادان إيمانًا أنَّ أمّهم الأرض تستحقّ منهما تخليصها من كلّ هذه القسوة ومن كلّ هؤلاء القساة الذين لا يرقبون فيها إلًّا ولا ذمّة.

ورغم كلّ ما يرونه من متسلقين ومارقين باسم النّضال فما فكّروا بالاستقالة من حمل القضايا، فالعمل للقضايا العادلة ليس وظيفةً يستقيل منها المرء حين التّعب، بل هو القضاء المحتوم والقدَر الملازم الذي لا انفكاك عنه عند مَن يرون مواجهةَ الظلم والطغيان عنوان الكرامة التي لا يقبلون بأدنى منها للحياة على هذه الأرض.

  • مزايدات نرجسيّة فرعونيّة

ومن صورِ الكفرِ بالأوطان أن يأتيكَ من بذل في سبيلِ قضيّته العادلة فيصرعُ الدُّنيا بإنجازاته الباهرة وأعمالِه الثَّوريَّة الفذَّة، فهو الصَّرخةُ الأولى في ‏ساحاتِ الحريَّة، وهوَ قائدُ المظاهرةِ الأولى في ميادينِ البطولة، ورائدُ التَّخطيط الأوَّل ‏لإِنجاح الثَّورة، والمطارَدُ الأوَّل في دروبِ آلامها، والإعلاميُّ الأوّلُ في نقل صوت الحقّ ‏والحريَّة، وهو الرَّصاصة الأولى في وجه الطَّاغية، ولولاه ما قامت للثَّورة قائمةٌ ولا عَلا لها ‏صوت ولا رُئِيَت لها صورةٌ ولا سارَ بها ركبٌ، ومع ذلكَ لا ضيرَ عندهُ أن يضحيَ ‏بالثَّورةِ والوطنِ وكلّ شيءٍ ليبقى هوَ الأوَّلُ في مديحِ المادحينَ، والرَّائدُ في مواطنِ الفخرِ‏‏!!‏

هؤلاء المتمحورون حول ذواتهم النّرجسيّة، والذين لا يرون إلَّا أنفسهم، لا يؤمنون لا بأوطانٍ ولا قضايا، بل يؤمنون بذواتهم الضّيّقة، فهي عندهم فوق كلّ قضيّة وأعلى من كلّ وطن؛ صورةٌ من صور الكفر بالأوطان، وهي كذلك سببٌ من أسباب نفور الشباب المخلص الزكيّ من البذل والتّضحية، والولوج إلى قتامة الكفر بالوطن.

غيرَ أنّ ما يجب ترسيخُه في أذهان النّاس عامّة والشباب على وجه الخصوص أنّ هؤلاء ليسوا هم الوطن بل هم عبءٌ من أعبائه وما ارتفعت أصوات هؤلاء النرجسيّين إلّا بخفوت أصوات المخلصين، وأنّ الأوطان لا تُغتال، ولا يُكفَر بها، ونحن حين نفعل ذلك فإننا نغتال أنفسنا ونكفر بذواتنا من حيث لا نشعر.