عندما لم ينفجر البرميل

2019.09.08 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يقترح الإيمان بالقدر أن كل تفاصيل حياتنا أمر مكتوب، حدث ويحدث وسيحدث تماماً بالطريقة المنصوص عليها، لكن حتى بالنسبة لمؤمن بالقدر -كحال الكاتب- لا يمكن أن تمنع نفسك من التفكير في عشرات المواقف التي كان يمكن لها أن تغير حياتك بأكملها لو حدثت بطريقة مختلفة، بل ربما تنهي حياتك من أساسها!!

تفصيلٌ صغيرٌ جداً كخطأ بسيط في تركيب صاعق لبرميل متفجّر، قبل شحنه في إحدى أشباح الموت المتَّجهة إلى مدينة حلب أواخر عام 2013 والتي تحمل مهمة "قتلنا"، كان دوماً بالنسبة إلي إحدى تلك اللحظات الفارقة التي تدخلت بها الأقدار بصورة أجدها إعجازية، ولا أعني بـ "نا" الدالة على جماعة المتكلمين هنا قاطني المدينة أو الشعب السوري أو الثوار عموماً، بل أعنيها حرفياً!!

قتلنا نحن المجموعة الصغيرة من الثوار المتجمّعين في الصف الشمالي من الطابق الأرضي في مدرسة "أحمد شنن" لمرحلة التعليم الأساسي في حي "الزبدية"، والتي حوّلتها كتيبتنا "أبو أيوب الأنصاري" التابعة للجيش السوري الحر إلى مقر عسكري بعد تحرير الأحياء الشرقية من المدينة، لقربها من جبهة "جب الشلبي" التي ترابط عليها.

في تلك الفترة وعلى بعد 200 كم شرقاً كان تنظيم "داعش" قد بدأ حملته ضد الفصائل الثورية في مدينة الرقة لاحتلالها، الأمر الذي دفع عدداً من ناشطي المدينة وأبنائها إلى مغادرتها باتجاهات عدة، ومنهم "فراس" طالب كلية الطب في جامعة حلب بداية الثورة السورية، والثائر الضحوك الذي قرر الالتحاق بكتيبتنا في حلب.

حينها كان عُرفاً لدى معظم المجموعات الثورية تواجد "شَرعِيّ" في كل منها، و الشرعيّ هو شيخ أو مهتمّ لديه حظ ٌّ من العلم الديني الشرعيّ، تقتصر مهامه في بعض المجموعات على الدعوة والإجابة عن استفسارات المقاتلين الشرعيّة فيما يخص الجهاد، بينما تصل في مجموعات أخرى إلى تولي القضاء ومجالس الصلح وغيرها، ولأن كتيبتنا تتكون في معظمها من طلبة جامعيين بعضهم متدين لم تبرز حاجة حقيقية إلى تسمية أحد بعينه كـ"شرعيّ" للكتيبة، هذا قبل أن يأتي "فراس" الذي لم يمنعه إدمانه على "الأركيلة" والشتائم من أن ينصّب نفسه "شرعياًّ" لكتيبتنا.

وعلى عادته في المزاح أخذ فراس هذا "التكليف" بجدية، فكان يلاحقنا لأداء الفرائض ويَؤُمّنا في الصلاة، ويقضي في المشاجرات الصغيرة التي كانت أساساً طريقة اللعب بين أفراد الجيل الثاني من شباب الكتيبة الأصغر سناً، والأهم من ذلك كله دوره في تفقيه مقاتلينا حول حقيقة تنظيم "داعش" والذي كان منتشراً بين "شرعيي" الفصائل الثورية وصف أفراده بـ"البغاة" أو "الخوارج"، في حين كان لفراس رأي مغاير يصنفهم فيه "أبناءَ ال***".

تلك الفترة ترافقت أيضاً مع تطور في قدرات الإشارة لدى الفصائل الثورية في المدينة، بفضل ثلّة من الشباب الذين أسسوا مجموعة مركزيّة بمعدات متطورة نسبيّاً مكّنتهم من اختراق إشارة قوات آل الأسد

تلك الفترة ترافقت أيضاً مع تطور في قدرات الإشارة لدى الفصائل الثورية في المدينة، بفضل ثلّة من الشباب الذين أسسوا مجموعة مركزيّة بمعدات متطورة نسبيّاً مكّنتهم من اختراق إشارة قوات آل الأسد، وحتى الاستماع للمحادثات المباشرة بين الطيارين وقواعدهم أثناء دكّهم القسم المحرر من المدينة بالبراميل المتفجرة، وهو ما أتاح إنقاذ العديد من الأرواح، إذ كنّا في بعض الأحيان نعرف أين سيلقي الطيران براميله.. (سوق بستان القصر.. تجمع مبان في حي المشهد.. جسر الشعار.. باب الحديد...).

أذكر تماماً تواصل المركزية معنا ذاك اليوم محذّرين أنّ أحد أهداف المروحيات وبراميلها تلك الليلة ستكون مدرسة "أحمد شنن" (مقرنا).

كان بناء المدرسة يمتد بشكل خطي من الشمال إلى الجنوب، يضم في كل من طوابقه الثلاثة صفوفاً مدرسية متجاورة تطل على ممر خطي "كوريدور" يمتد إلى جانبي بيت الدرج في منتصف البناء، أما القبو فكان مطلاً على الساحة الأساسية من جهة الشرق بشكل طابق أرضي، وإن كنتَ لا تستطيع الوصول إليه إلا بصعود درج من الساحة إلى الطابق الأرضي للمدرسة والنزول إلى القبو من داخل البناء، فيما يطلّ القبو بنوافذَ صغيرة على الساحة الثانوية للمدرسة من الطرف الغربي، وذلك بسبب طبيعة الأرض المائلة.

بالطبع بناء كهذا يعتبر هدفاً سهل التدمير لأي طائرة، فشكله المتفرد وسط المباني السكنية المجاورة، وامتداده الخطّي الذي منع وجود غرف داخلية فيه جعلته مكاناً غير آمن من القصف، لكنه آنذاك كان أكثر من مقرّ بالنسبة لنا.

كان بيتنا نحن الوافدين من مختلف محافظات سوريا ومن أرياف حلب، وحتى شباب الكتيبة من أبناء الأحياء المحررة في المدينة كانوا يفضّلون قضاء الوقت فيه بدل منازلهم، الأمر الذي جعل فكرة إخلاء المقر غير واردة، بل لا أذكر أن أحداً ناقشها حين وصلَنا التحذير.

تناولنا يومها وجبة الغداء (برغل ولبن) التي أتتنا من المطبخ المركزي لـ"تجمع فاستقم كما أمرت" والذي كانت الكتيبة من مرتّباته، ثم مضى كلّ منا إلى عاداته، فراس إلى رأس أركيلته الثالث لذاك اليوم يحشوه بـ"المعسل" ويتفنن في تثقيب "القصدير" فوقه..

حسن أبو شمعة (تقبله الله) وشباب الكتيبة الأصغر سناً إلى عراكهم اليومي..

حمدي وأبو عروة وآخرون إلى طاولة "البينغ بونغ" ودوري الكتيبة..

وأنا إلى تصفح المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي..

بسط الليل شراعه.. واقترب موعد المدينة مع أشباح السماء وبراميلها المتفجرة، وباتت لحظات الصمت في القاعة الشمالية من الطابق الأرضي التي اعتدنا التجمع فيها تطول على حساب الكلام.. اختفت الضحكات تماماً، وحتى صوت تقلب الماء في أركيلة فراس توقّف.

كنا ننتظر إحدى مروحيات نظام آل الأسد التي احترف طياروها إصابة أهدافهم بعد آلاف الساعات التدريبية فوق رؤوس أهالي المدينة لتضرب مقرنا غير الحصين

كان هذا غريباً بالنسبة لمجموعة تُعتبر من نخب المدينة العسكرية، والتي اعتاد أفرادها –لا أعني نفسي– قضاء معظم وقتهم يلاعبون الموت على جبهات القتال في رباط أو معركة، لكن هذه المرة كانت مختلفة، فقد كنا ننتظر إحدى مروحيات نظام آل الأسد التي احترف طياروها إصابة أهدافهم بعد آلاف الساعات التدريبية فوق رؤوس أهالي المدينة لتضرب مقرنا غير الحصين ببرميل متفجر.

بدأ الطيران الحربي يدخل أجواء المدينة، وصدحت أجهزة التواصل اللاسلكية "القبضات" بصوت الراصد:

"الطيران الحربي في الأجواء.. الطيران الحربي في الأجواء.."

أول تعقيب سمعناه بعدها كان سؤال فراس: "صليتم العشا؟؟"

تنبّهنا حينها أنّا لم نصلّ بعد، وقد كان من عادتنا تأجيل العشاء أحياناً، لكن لم يكن أيّ منا يرغب بالموت وفي ذمّته فرضٌ ناقص.

أقمنا صفوفنا بسرعة –كانت نادرة– خلف إمامنا..

كبّر فراس.. ثم أخذ يرتّل الفاتحة حتى أتمّها مع صوت شفرة المروحيّة تشقّ الهواء فوقها مؤذنةً باقترابها.. اختنقت الآيات في حنجرته حتى توقفت تماماً، وخشعت حركاتنا تاركة إيّانا معلّقين خلفه وقوفاً قرب النافذة الممتدة يسارنا على طول جدار القاعة الصفيّة كأن على رؤوسنا الطير.

كل ما رجوته وقتها أن يفرُغَ فراس من القيام إلى السجود مطيلاً إيّاه فنكون أقرب ما يمكن إلى الأرض إذا حصل ما نحذر.

في حلب تشتهر مقولة مفادها "أنك لن تسمع صوت البرميل المتجه إليك"، لكننا سمعناه بوضوح خلع قلوبنا، وأطلق أقدامنا للريح تجري بنا كلٌّ إلى ما يحتمي به.

في الوقت الذي وصلتُ فيه خلف عمود إنشائي أمام المدخل خارج القاعة، كان البرميل قد ارتطم بالأرض خارج سور المدرسة مزلزلاً إياها.. لكنه لم ينفجر.

خرج بعضنا يتفقد مكان نزوله، وعدت مع الآخرين إلى القاعة متبسّمين ومتلاومين بعد زوال الخطر.. "كيف تركتم موقفكم بين يدي ربكم؟!"

بوجوه مصفَرّة وعرق بارد يلف أجسادنا وشعور نسبي بالارتياح أعدنا ترتيب صفّنا خلف فراس الذي بدى عليه الشعور بالإهانة لتصرفه الطبيعي بالفرار.

تكبيرة الإحرام.. الفاتحة.. صوت المروحية يقترب مجدداً.. صمت مطبق.. ثم برميل ثانٍ يهوي.. وأقدام تحملني خلف العمود الإنشائي نفسه..

يرتطم البرميل بالأرض قريباً جداً من سور المدرسة.. ومرة أخرى لا ينفجر..

الفرق الوحيد هذه المرة كان فراس الذي بقي قائماً يحاول جاهداً إكمال الآيات وقد غاص رأسه بين كتفيه وانقبض جسده..

عاد أحد الشباب الذين خرجوا لتفقد البرميل الأول مطمئناً إيانا أن لا إصابات.. والحمد الله.

بقي فراس يتفاخر بذاك اليوم الذي هزم فيه البرميل لفترة طويلة، شاتماً كل الهاربين ضعيفي الإيمان، ومؤكداً أن لا "شرعي" آخر كان سيثبت كما فعل حتى لو كان أحد "ع**** تنظيم داعش"، على حد تعبيره.

لاحقاً علمنا أن نظام آل الأسد اعتقل بعض جنوده المسؤولين عن شحن البراميل في الطائرات، متهماً إياهم بالخيانة لإتلافهم عن عمد الصاعق المسؤول عن تفجير البراميل لحظة ارتطامها بالأرض.

أُحبّ أن أراجع تلك الحادثة مراراً متخيلاً كل الاحتمالات الأخرى التي كانت ستغير ما حدث، كتبديل في نوبات الجنود يسمح للمجموعات الأخرى التي تُحكم تركيب الصواعق على البراميل قبل شحنها أن تكون هي المسؤولة عن تلك الطّلعة، أو اكتشاف النظام "خيانة" تلك المجموعة من الأبطال المجهولين قبل ذاك اليوم، أو حتى تغيّر طفيف في اتجاه الرياح أو سرعة تحرك المروحية يحرف البرميل قليلاً فقط ليخترق المدرسة ساحقاً إيّانا وإن لم ينفجر....

إلى غيرها من الاحتمالات التي تدخّلت الأقدار في نسج خيوطها لتجري الأحداث تماماُ كما هي.. إلى قدر محتوم ليس يتبدّل.. حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.