عندما تتحرر السياسة الروسية من عقدها

2019.11.17 | 12:43 دمشق

1457982856480014200.jpg
+A
حجم الخط
-A

بحكم تدويلها، يعتمد حصول أي انفراج في القضية السورية على توافق وانسجام بين أميركا وروسيا، رغب السوريون في ذلك أم لم يرغبوا. وللأسف، تحول دون هذا التوافق والانسجام جملة من الأسباب أعقدها وأمرها مركبات نقص (في الجانب الروسي تحديدا)؛ تجعل سياسته أحياناً نوعاً من المكايدة والحرتقات التكتيكية السخيفة التي تكلف دماءً ودماراً.

يقول المثل الإنجليزي: /“a bad laborer blames his tool” "العامل الرديء يلوم أداته"/. والسياسة الخارجية الروسية تعتبر أن ما من خطأ أو أذى أو خراب في هذا الكوكب إلا ووراءه أميركا. وهذا الموقف لم يبرز بالأمس؛ بل تعود جذوره إلى صراع أيديولوجي عمره عقود؛ كانت ذروته حرب باردة تلت الحرب العالمية الثانية، وانتهت بسقوط الاتحاد السوفييتي.

مع بداية الألفية ومع وراثة روسيا للاتحاد السوفييتي، ومع رغبة بوتينية جامحة لاستعادة المجد السوفييتي بلبوس مختلف؛ تستمر العقدة الروسية ذات المصدر الأميركي؛ ولا تستقر درجة الحرارة الروسية، فتراها أحياناً ترتفع إلى درجة الغليان التي تؤججها بعض التصريحات التي تعكس جذر مواقف الفريقين. فعندما قال الرئيس الأميركي الأسبق "أوباما"  إن روسيا ليست أكثر من دولة إقليمية كبيرة؛ تفاقم داء العقد وارتفعت درجة حرارة الدب الروسي.....//.

مشكلة روسيا الأساس تلخصها تلك العبارة العبقرية الرحبانية التي أتت على لسان المبدعة فيروز: "انت يللي بكرهو، واللي بحبو انت". فبالنسبة لروسيا بوتين ولافروف، ليغضب الكون وكلٌ ممالكه ودوله، ولا يهتز خاطر أميركا؛ فهي الحبيب، الذي تتطلع روسيا إلى النديّة معه، وهي في الوقت ذاته العدو الذي لا بد أن يُلام على كل خطأ أو مصيبة تقع. كلام الكون لا يسترعي اهتمام الروس؛ ولكن كلمة من أميركا (طيبة كانت أم مؤذية) تقيم قيامة روسيا ولا تقعدها؛ والمثال ما قاله أوباما يوماً.

تحاول روسيا أن تتصرف كدولة عظمى، وإذ بها تنغمس بإجراءات انتهازية قصيرة المدى لا تشكل سياسة أو استراتيجية لدولة عظمى كما تطمح. لا يحتاج المرء إلى كثير من العناء كي يضع يده على تجليات صِغر ومحدودية السياسات.

في سوريا الحالية، وبعد أربع سنوات من البراعة العسكرية الروسية، عجزت روسيا عن استكمال سيطرتها على الجغرافيا السورية

فمنذ بدء العلاقة مع سوريا الأسدية تاريخياً؛ تصوّرت روسيا أنها أفلحت في سوريا حافظ الأسد؛ وإذ بها تكتشف أن يد الرجل في جيبها، و قلبه مع أميركا؛ وليتبيّن لها لاحقاً أن ابنه أكثر وأدهى وأقل مبدئية في هذا الجانب. في سوريا الحالية، وبعد أربع سنوات من البراعة العسكرية الروسية، عجزت روسيا عن استكمال سيطرتها على الجغرافيا السورية؛ وكان الاستثناء سياسة الأرض المحروقة وقتل المدنيين وتدمير المشافي؛ وفي الوقت ذاته رمي اللوم على أميركا؛ فهي لم تتمكن مؤخراً من جلب قسد للنظام، وهنا أيضاً رمت باللائمة على أميركا. وهي لم تجد مناصاً إلا بالقبول بالعملية التركية، حيث وجدت نفسها بين مئة مطرقة وسندان. وهي عجزت عن وضع يد النظام على النفط، وصبت جام صراخها على أميركا كعصابة سطو على رزق الآخرين، ناسية موانئ سوريا وقواعدها وفوسفاتها، الذي وضعت يدها عليه.

وفيما يخص الساحة السورية المدوّلة - وبعد كل ما فعلت - تجد روسيا نفسها مؤخراً أنها ما استطاعت بيع إيران للغرب، ولا تمكنت من زحزحة الملالي عن عنادهم ومسلكهم العبثي. وما استطاعت تسويق إيران، ولا كسبت من الغرب ثمن الدور. وفي كل ذلك، ترمي باللائمة على أميركا.

عرفت روسيا منذ البداية الاهتمام الإسرائيلي بقيمة النظام الأسدي لها؛ تفاهمت مع إسرائيل بشكل وظيفي خدمي؛ واعتقدت أن ذلك يساعدها في تقديم أوراق اعتمادها للغرب الأمرو-أوربي؛ ولكنها مؤكداً اكتشفت أن أهمية هذا الفعل تزول بزوال المهمة. وفي هذا أيضاً، ترى بأميركا سبب فشلها.

وعلى الصعيد العربي، ما استطاعت دحش النظام في أنف الجامعة العربية؛ ولا زحزحته باتجاه الخضوع لشروطها.  حتى سيسي مصر لم تتمكن من نيل ثقته؛ وما استطاعت حتى الساحة العراقية المريضة تحملها، ولا حتى الفوضى الليبية قبلت بهلوانياتها وفرق إجرامها "الفاغنرية". أما الخليج العربي، فقد كان حاراً عليها، وهو ذاته لم يتحمل بردها. وفي كل ذلك تلمح الشبح الأميركي معطلاً لجهودها "العبقرية"

هناك لا شك الكثير من الصحة للتشخيص الروسي؛ ولكن كما يُقال بالأفراد، يمكن أن يُقال في الدول. فعندما نقول: لا يأتي المرء شيئاً إلا من نفسه؛ يمكن القول إنه لا تحصد روسيا شيئاً إلا الذي تزرعه. ففي الحالة السورية، يمكن للسياسة الروسية أن تجعل روسيا - ولأول مرة - تلك القوة العظمى (لا العسكرية فقط، بل الاستراتيجية الوازنة المؤثرة) عبر مقاربة جديدة للقضية السورية، إن هي قررت أن الشعب السوري هو مصدر قوة سورياً - لا حفنة عصابية منفصمة عن الواقع هاجسها السلطة والتسلط. وهكذا يكون التفوق لا الندية في القوة فقط. غير ذلك ستبقى تسبح في عُقد الدونية تجاه أميركا، التي تتفوق عليها برعاية واحتضان الدكتاتوريات. الحياة لن تنتهي غداً؛ والزمن للحرية لا للاستبداد.