في وقت تلوح فيه تهدئة وانتهاء الحرب الإسرائيلية وأخذ الأنفاس في المنطقة التي سيُبنى عليها ترتيبات جديدة، يسعى كل طرف إلى كسب أكبر قدر ممكن من المكاسب القادمة، فما بعد حرب غزة ليس كما قبلها، ويبدو أن الجميع يريد أن يستبق الأحداث مع رئيس الولايات المتحدة دونالد ترمب الذي ينتهج سياسة المقايضة والتي مارسها في فترته الرئاسية السابقة، وعلى الأرجح أنه سوف يستخدمها بعد توليه زمام أمور الرئاسة في واشنطن.
طبعاً من بين هذه الأطراف تنظيم "قسد"، والذي سعى منذ زمن ليس بقليل إلى ضرب الاستقرار في الشمال السوري، ضارباً عدة عصافير في أي عملية يقوم بها (تنظيم يقدم خدماته للجميع).
استعدادات تركية لملء الفراغ الذي قد يسببه انسحاب القوات الأميركية من سوريا.
وفي الآونة الأخيرة شهد الشمال السوري زيادة في المناوشات بين كل الأطراف، وآخرها الهجوم المزدوج الذي جرى على مدينة الباب ضد الجيش الوطني المدعوم من قبل تركيا، في ظل أحاديث ترددت مؤخراً عن استعدادات تركية لملء الفراغ الذي قد يسببه انسحاب القوات الأميركية من سوريا، وأن أنقرة قادرة على القيام بعملية عسكرية ضد "قسد" في أي وقت يسمح لها ذلك، مستفيدة من الأوضاع المتشابكة في المنطقة، مستبقة وصول الرئيس ترمب إلى سدة الحكم في الرئاسة.
ويمكن اعتبار الهجوم الأخير الذي قامت به "قسد" بأنه يأتي في سياق استباق أي تحرك عسكري ضدها، وأنها جاهزة عسكرياً، بل إنها تعطي رسالة مفادها أنها تراقب التحركات العسكرية والسياسية عن كثب.
لكن في نفس الوقت، هذا العمل يفتح أبواباً كثيرة للتساؤل عن مقدار الاختراق من قبل "قسد" ونجاح سياسة التسلل حتى في الداخل التركي، ويطرح أيضاً تساؤلاً آخر عن مدى الفوضى الأمنية التي تضرب الشمال السوري والتي انعكست في فشل فصائل "الجيش الوطني" مراراً في حماية مناطق سيطرتها من هجمات مماثلة، فضلاً عن السيارات المفخخة التي تدخل هذه المناطق بين وقت وآخر ويؤدي انفجارها في المدن الرئيسية في شمالي سوريا إلى مقتل مدنيين.
للأسف، تمتد نقاط التماس بين الطرفين على مساحات واسعة في ريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي غرب نهر الفرات، والتي تشهد بين وقت وآخر عمليات تسلل من قبل "قسد" لا تهدف فقط إلى قتل وإصابة عناصر من فصائل المعارضة السورية المتواجدة في تلك النقاط، بل إلى زرع الخوف والتردد في تلك الفصائل وإظهار نفسها على أنها قوة عسكرية لا يمكن الاستغناء عنها سواء للأميركيين أو غيرهم.
المسألة الكردية ليست بهذه البساطة أو الصغر، بل إنها قادرة على تفتيت أربع دول.
فضلاً عن الأجندة الانفصالية لـ"قسد" ومحاولاتها إنشاء منطقة ذات حكم ذاتي، إلا أنها تبقي الأبواب مفتوحة مع روسيا والنظام السوري، ربما تخوفاً من الشريك الأميركي الذي يبدو أنه يريد نوعاً من الاستقرار في المنطقة لأهداف اقتصادية، وربما هذا الاستقرار يأتي على حساب "قسد" نفسها.
لذلك قد تقدم نفسها كأداة يمكن استثمارها من قبل روسيا لمنع تركيا من التقدم عسكرياً، أو كأداة يستفيد منها الأميركيون ضد روسيا وإيران والتنظيمات الإسلامية المتشددة، وبهذا يكون المكسب متعدد الجوانب، علاوة على إفشال الجهود التركية في ترسيخ طريقتها في إنهاء الصراع في الشمال على حساب "قسد".
إسرائيل، اللاعب الآخذ بالتمدد في المنطقة، قد يدخل في دعم فكرة "قسد" بالحكم الذاتي، فهذه الورقة يمكن اعتبارها الأقسى على تركيا. فالمسألة الكردية ليست بهذه البساطة أو الصغر، بل إنها قادرة على تفتيت أربع دول. فتركيا التي تحارب حزب العمال الكردستاني على مدار أربعين سنة لم تستطع أن تقضي عليه، وحتى الآن ما زال الحزب قادراً على تنفيذ عملياته في الداخل التركي، وإن كانت بصعوبة. والخلاف التركي الإسرائيلي الأخير واحتضان تركيا لقيادات من حماس لن تسكت عنه إسرائيل، وخاصة أن الرئيس القادم حليف قوي لها، وربما سيكون لها دور في إقناعه بعدم الانسحاب من سوريا في حال أراد ذلك. وهذه الحسابات لا أظنها خافية على صناع القرار السياسي والعسكري في "قسد"، ولعل الأنباء عن إسقاط "قسد" لمسيرتين مسلحتين أطلقتهما القوات التركية باتجاه قرية مرعناز التابعة لناحية شرا بريف عفرين شمالي حلب، قبل الوصول إلى أهدافهما، رسالة حملتها "قسد" من قبل الأميركيين بأن هناك ما زالت خطوط حمراء لتركيا من قبل واشنطن.
أخيراً، ورغم كل هذا التوتر العسكري بين "قسد" وقوات الجيش الوطني للمعارضة السورية، إلا أن الطرفين يحتفظان بعلاقة ذات طبيعة اقتصادية، إذ يرتبطان بعدة معابر تجارية، لعل أبرزها معبر الحمران الذي تدخل من خلاله المحروقات من مناطق سيطرة "قسد" إلى شمالي وشمال غربي سوريا، بل حتى نحو دمشق. وبهذا، "قسد" ترسل رسالة اقتصادية وليس فقط عسكرية للأطراف الغربية تحديداً بأنها قادرة على التعامل الاقتصادي والسياسي وحتى العسكري في سوريا، وأنها قادرة على إثبات نفسها رغم كل التعقيدات في الملفين السوري والشرق الأوسط.