عمالقة الشر

2021.05.14 | 06:32 دمشق

أميركا وروسيا
+A
حجم الخط
-A

كانت خشية العالم بعد إلقاء القنابل الذرية على هيروشيما وناكازاكي مِن أن حرباً عالمية ثالثة لن يتأخر نشوبها بعد حصول الروس على أسرار صناعتها، ما خلّف نحو ربع مليون ضحية.

وهكذا أصبح لدى البشرية القدرة على محو نفسها من الكوكب، ووضعها أمام خيار جدي، بين الانتحار أو السيطرة على استخدام تكنولوجيا قد تفلت منها، إن لم تتحكم فيها بشكل عقلاني.

في ذلك الوقت، عام 1945 لم يتوفر ما يوجب الثقة في قدرة العملاقين على الاختيار المسؤول، فبعد انتهاء الحرب انقلب التحالف بينهما ضد النازية والفاشية إلى مشروع سيطرة بالقوة على العالم، وكان لكل منهما ذخيرته الإيديولوجية والنووية.

شغلت هذه المخاوف المفكرين، واتجهت أفكارهم نحو الدعوة إلى إنشاء حكومة عالمية فعالة تحل النزاعات وتسهر على سلامة تطبيق المعاهدات بين الدول، ما يجعل الحرب مستحيلة. ونبه أنصار هذا الرأي إلى أن الوقت وحساسية الظرف العالمي لا يسمحان بالتأجيل ولا بالمماطلة، العالم مهدد بالفناء، والضرورة تستدعي أن تُطور الإنسانية مجتمعًا دوليًا حقيقيًا، لا تحوز فيه القوى العظمى على حقوق تتفوق على حقوق الدول الأخرى الصغيرة والمتوسطة، وعدم سيطرة العقائد والمطامع على مسيرة الإنسان.

بيد أن أوروبا، كانت منقسمة بين يمين ويسار أي بين الأميركان والروس، فالبعض رأى أنه ينبغي الثقة بأميركا لأنه لديها رصيد من حسن النوايا في القارة القديمة، فقد أنقذتها من الهزيمة، وعززتها بخطوات عملية في خطة مارشال التي ضخت مليارات الدولارات في الخراب الأوروبي، لإبقاء الشيوعية محصورة داخل أوروبا الشرقية التي ابتلعها الروس. ومع أن قبول المال الأميركي كان مخزياً لأوروبا الغربية، لكنهم اعترفوا بضرورته والحاجة إليه.

بدت الشيوعية المحاولة الأشد طموحاً من أي محاولة سابقة لتغيير مستقبل البشرية نحو السلام العالمي

بينما علق اليسار الأوروبي آماله على الاتحاد السوفيتي، كانت قد أثبتت سمعتها الثورية، وحاولت فعليًا على الأرض تطبيق "المثال الإنساني الشيوعي العظيم" الذي سيقضي على الفقر والجوع وعدم المساواة، ويحقق العدالة، وينهي الحروب والاستغلال وغيرها من الشرور. بدت الشيوعية المحاولة الأشد طموحاً من أي محاولة سابقة لتغيير مستقبل البشرية نحو السلام العالمي. لذلك كان الأمر يستحق الدفاع عنها.

كانت وجهة نظر اليسار الأوروبي قوية، فالعالم بعد الحرب بات يقدم الظروف المواتية لتحقيق هذا الحلم، بعد درس مؤلم من حربين عالميتين، خلفتا ملايين الضحايا ودمار أوروبا.

لم يكن الحلم مستحيلا، وإن كان الطريق طويلًا، رغم المزالق، ولم تكن خافية وإن جرى التستر عليها، لكنها باتت حاضرة بقوة؛ ما فضح قائمة طويلة من الحقائق المرعبة كشفت عن معسكرات عمل، قمع، ترهيب، تخويف، مراقبة شديدة، مخبرين ووشاة، بوليس سري، معتقلات وسجون، قتل ومجاعات وانعدام حريات.. لم تعد سراً، بل بدأت تظهر على الملأ في دعاوى قضائية وشهود ومحاكمات داخل أوروبا الغربية.

أصرّ اليسار على أن روسيا تستحق الدفاع عنها، أكثر من النظام الرأسمالي، بعدما فقدت أميركا جزءا مهماً من أرضيتها الأخلاقية بخوفها المبالغ به من الشيوعية، أدّى بها إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد أية منظمة يسارية أو نقابة يشتبه بميولها، وأصبح لديها قوائم سوداء ولجنة مكارثي التي باتت تعادل محاكم التفتيش في القرون الوسطى.. وبات الضمير في خطر، بعدما طالت كبار الأدباء والفنانين، مثل بريخت وشابلن وآرثر ميلر ومخرجين وكتاب سيناريو، بلغت الذروة بإعدام ساكو وفانزيتي وغيرهم.

وقائع صدمت البلاد، كانت بناء على شبهات من دون توفير محاكمة عادلة. كانت الدعوات الشعبوية قد حرضت جمهوراً غاضباً، أدّى إلى انتشار هيستريا جماعية تدعو إلى الدفاع عن أسلوب الحياة الأميركية، لكنها لم تقنع قطاعات كبيرة من الشعب الأميركي، ما أوقف هذه المهازل القمعية، لكن بعدما شردت عائلات.

أصبحت أميركا متهمة من بلدان أوروبا وعلى رأسهم اليسار، رغم أنها قدمت لهم الحرية والرأسمالية، لكنها حرية مصحوبة بالوساوس وإجراءات غير قانونية، ورأسمالية تشجع على الجشع بلا حدود، واستعمار اقتصادي، واستغلال للعمال. أمّا الاتحاد السوفييتي فيمثل احتمالاً نبيلاً في الأفق، وإن كان سيئاً حالياً بسبب ظروف ترسيخ الشيوعية في روسيا.

تخندق العالم بين الروس والأميركان، وكل منهم لديه الدليل على خيانة الآخر للإنسانية والعدالة، وابتدأت حرب أخرى دعيت بالحرب الباردة

تخندق العالم بين الروس والأميركان، وكل منهم لديه الدليل على خيانة الآخر للإنسانية والعدالة، وابتدأت حرب أخرى دعيت بالحرب الباردة، ولم تكن باردة إلا لامتلاك الدولتين الأعظم ما يكفي للقضاء على الكوكب عشرات المرات. وإذا كان الطرفان قد أدركا حجم الكارثة التي ستحل عليهما من جراء خلافاتهما الإيديولوجية للسيطرة على البشر والتحكم فيهم، فقد جرى تصدير الحروب إلى العالم الثالث، ما حوله إلى ساحات قتال، وأصبح للآلة الحربية فرصة لتسخين الحروب خارج بلدان الغرب.

سيكون من قبيل الكلام الممل القول إن العالم لم يتعلم من الحروب الباردة والساخنة، وليس من المجدي الإشارة إليهما، لكن دواعي التذكر، أنها أصبحت واقع الحال، هذه الحروب انتقلت بأنواعها كلها القديمة والمستجدة إلى منطقتنا، مع إخفاق أي دعوة إلى إنشاء حكومة عالمية فعالة تحل النزاعات، وإن مثلها مجلس الأمن، لكن كوسيلة لضبط الحروب لا إلغائها. واليوم، تقدم سوريا بعد عشر سنوات من القتال مثالاً مرعباً، يستدعي سؤالا مفحماً: هل كان بوسع دكتاتور صغير إحداث كل هذا الدمار، لولا وجود العملاقين الشريرين، ومجلس للأمن يبرر الدكتاتوريات والمجازر؟