icon
التغطية الحية

"على حافة وطن" حكاية ثورة السوريين من الصرخة إلى العودة

2021.02.18 | 15:59 دمشق

yblaybfaqfqfq.jpg
سهير أومري
+A
حجم الخط
-A

(شاهد على العصر) خير ما توصف به رواية "على حافة وطن" لكاتبتها "أم السعد". ولعل الاسم غير الحقيقي الذي اختارته الكاتبة لنفسها يقدم للقارئ منذ اللحظة الأولى من إمساكه الرواية، رسالة صارخة تحكي له قصة الفم المغلق، والصوت المخنوق، والحرية المنهوبة للسوري الذي تقف بينه وبين قدرته على التعبير أسوارٌ من القمع، وحصونٌ منيعة من البطش والوحشية التي عاشها على مدى أكثر من أربعين سنة حتى قام بثورة.

توثق الرواية حالاً عشناها ونعيشها توثيقاً زاخراً بالحياة، مفعمة بالروح لنرى كيف بدأت الثورة، وكيف كانت مساراتها، وما آلت إليه حال شبابها وشاباتها من اعتقال وتعذيب وقتل ولجوء، وكيف تاهت البوصلة أحياناً، وضعف الأمل، وخارت القوى، ومع ذلك بقي روح الثورة حياً في قلوب كثيرين يستنهض همم الأجيال.

أكثر من 450 صفحة تعرض لنا فيها الكاتبة قصص الثورة بلسان شباب وشابات دمشق، مع رغد وحسام ورشا وسارة وأسامة وبلال وعبير وغيرهم، حيث البيئة الشامية بحاراتها وشوارعها، بصباحات أهلها وعاداتهم يعيش القارئ أربعة فصول يتناوب أبطال الرواية في حكاية تفاصيلها، حتى يعيش بعض الأحداث بصوت أكثر من راوٍ لتكتمل الصورة من كل زواياها ويتضح المشهد..

الصرخة

عنوان اختارته أم السعد للفصل الأول من الرواية، وفيه يسمع القارئ أول نداء للحرية مع رغد الصيدلانية وحيدة أهلها التي كانت مع صديقاتها في صفوف الثورة الأولى تشارك في كل المظاهرات والاعتصامات، وكذلك كان ابن جيرانها حسام، الذي يحبها بصمت، وينتظر الفرصة السانحة ليخطبها، تجمع المظاهرات بينهما، ويلتقي قلباهما على حب الوطن في حالة جميلة من الحياء يتبادلان فيها الحب بلغة العيون فقط، يُعتقل حسام وتُعتقل رغد، ويخرج كل منهما بإصرار أكبر على المضي فيما جمعهما من هَمّ عتيق، وهو مستقبل الحرية لسوريا.

 ويمضي القارئ معهما ليتعرف إلى الوجه الناصع للثورة، وكيف كان الحراك السلمي بأبهى أشكاله، من اعتصام البرلمان إلى إضراب الكرامة وحتى مظاهرات الميدان، وغيرها من التفاصيل الحقيقية التي وثقتها الكاتبة بالزمان والمكان، مستعرضة ما عاشه أهالي الشام من صراع بين الآباء والأبناء بسبب خوف الأهالي من بطش النظام الذي يعرفونه منذ مجازر الثمانينيات، وتعرض الكاتبة كيف واجه النظام المظاهرات السلمية بآلته العسكرية مستخدماً الرصاص الحي معتقلاً الشباب والشابات على حد سواء، فتُعتقل رغد للمرة الثانية وتتعرض للتعذيب، وبعد خروجها وخطبتها لحسام تعود فتُعتقل، ولكن هذه المرة يُعتقل أيضاً حسام الذي ذهب ليبحث عنها في فروع الأمن.

تحت الأرض

بين الزنازين المنفردة والجماعية، في الظلام وتحت وطأة الأمراض وروائح العفونة والسياط والدماء نعيش أحوال رغد وحسام وأسامة وسارة وغيرهم من أبناء دمشق وريفها

فصل كامل يعيش القارئ فيه تفاصيل تعذيب الثوار في المعتقلات، متنقلاً بين مشاهدها السوداء متوقفاً خلالها ليلتقط أنفاسه وهو يعاين وحشيةً تخجل منها الوحوش، بين الزنازين المنفردة والجماعية، في الظلام وتحت وطأة الأمراض وروائح العفونة والسياط والدماء نعيش أحوال رغد وحسام وأسامة وسارة وغيرهم من أبناء دمشق وريفها وحتى من محافظات أخرى، وليشترك الثوار المعتقلون في الألم رغم اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم، مع التركيز على أن تعذيب أهالي دمشق كان يتوقف عند حد معين، الأمر الذي لم يكن يجده أهالي الريف أو غيرهم من المحافظات، ولم يفت الكاتبة أن تصور المواقف الطيبة التي كان يظهرها بعض السجّانين والقضاة عند الحكم على المعتقلين في إشارة إلى ما تجمعه صفوف النظام من سوريين مغلوبين على أمرهم...

التـيــه

وبعد الخروج من المعتقل يبدأ (التيه) مع الفصل الثالث من الرواية، فصل اللجوء حيث تبرز عمان التي سافر إليها أسامة بعد خروجه من المعتقل حاملاً آلامه النفسية التي أثرت على حياته وسلوكه،  ثم إسطنبول لتكون مسرحاً للأحداث يجتمع فيها هؤلاء الشباب والشابات، ولتلتقي رغد بحسام الذي لا يعرفها لما أصابه من فقدان ذاكرة جزئي بسبب ما عاناه من التعذيب، وخاصة أنه نقل إلى سجن صيدنايا سيئ الصيت، ثم يسافر بصحبة فراس إلى ألمانيا ليتم علاجه هناك، ثم يرجع إلى إسطنبول ليتزوج رغد.

ونرى أسامة وسارة في قصة موازية تستعرض من خلالها الكاتبة أحوال السوريين في إسطنبول بدقة متناهية، فتصور لنا حال آلاف الشباب والشابات الذين وصلوا إليها وحدهم بسبب خوفهم من الاعتقال أو بعد خروجهم من المعتقلات ليعيشوا في بيوت سكن جماعية، وكيف طحنتهم رحى الحياة وهم يبحثون عن لقمة العيش، فتفاجئهم الرواتب الزهيدة التي تستغل حاجتهم، فلا يكاد الواحد منهم يتقاضى أكثر من ألف ليرة تركية، بينما يحصل المهربون على رواتب تتجاوز العشرة آلاف دولار شهرياً، وهم يسهلون للسوريين ركوب قوارب الموت متجهين إلى أوروبا.

السوريون تحت المجر

 وتصور لنا الكاتبة الهزيمة النفسية الكبيرة التي يعيشها هؤلاء الشباب بين كوابيس المعتقلات التي لا تفارقهم، وبين شعورهم بالعجز وعدم الجدوى، فنراهم يساهمون في تشكيل الجمعيات والمؤسسات والمنظمات التي يرون من خلالها استمراراً لنبض الثورة وحياتها، يقول فراس: "الثورة ليست مظاهرات ومنشورات فقط، بل متابعة الطريق يكون بتجمعنا وتنظيم عملنا ضد النظام".

وفي الوقت نفسه نرى بعض الشباب يقعون في فخ التخبط، وهم يرون أنفسهم محصورين في زاوية الإغاثة مع إيمانهم التام أنهم ما زالوا ثواراً، فيستمرون في عمل ما يقدرون عليه، يتطوعون في المخيمات، أو يزورون مصابين، أو يجهزون معونات للمنكوبين في الداخل.

وتعرض لنا أم السعد كيف صار كثير من السوريين في دول اللجوء يمتنعون عن مشاهدة الأخبار والتحدث بالسياسة، وكيف برز السؤال الوجودي حيال الثورة كلها:"لماذا كل هذا؟".

تركز الكاتبة على مفارقة مهمة وهي أننا نريد العالم أن يؤيد ثورتنا ونحن نمزقها بخلافاتنا. ومن الأمراض التي تشير إليها كيف صار بعض الثوار يحتكرون الفضل لهم

ولا يخفى على الكاتبة أن تظهر بعض الأمراض الخطيرة التي يعاني منه السوريون في المهجر، من ذلك الفرقة والتشرذم التي من أهم أسبابها وجود كثير من المؤيدين بين صفوف المهجرين واللاجئين، موضحة وجهة نظر هذه الفئة التي ترى أن الثورة كانت سبب الخراب، وأنها مؤامرة، و(كنا عايشين)، بالإضافة لتكالب البعض على تحقيق مصلحته ولو على حساب غيره، يقول أسامة: "نحن كسوريين متفرقين، وكل واحد فينا يجري وراء مصلحته، ويقتات على الثورة، ولذلك حكم علينا بالشرذمة مدى الحياة، سنتيه في الأرض أربعين سنة، وربما يأتي الجيل الذي بعدنا، ويستطيع إصلاح ما أفسدناه".

 وتركز الكاتبة على مفارقة مهمة، وهي أننا نريد العالم أن يؤيد ثورتنا ونحن نمزقها بخلافاتنا، ومن الأمراض التي تشير إليها كيف صار بعض الثوار يحتكرون الفضل لهم، وكأن الثورة معطف غالي الثمن يتسابق الجميع لارتدائه والاستعراض به، ومن تلك الأمراض أيضاً جشع بعض منظمات الإغاثة والسرقات التي تتم فيها، إذ تصلها مئات ألوف الدولارات بينما لا تمنح المتطوعين قرشاً واحداً، وتكسب هذه التبرعات من خلال تصوير المحتاجين مركزة على الأطفال منهم دون أي اعتبار لكرامتهم.

من تلك الأمراض أيضاً حال بعض الشباب الذين خرجوا من سوريا ولم ينهوا دراستهم أو حتى لم يحصلوا على الشهادة الثانوية، وكيف صاروا في تركيا يلقبون بـ "دكتور"، وخصوصاً في مجال الإرشاد النفسي ومجالات التنمية البشرية، وذلك بعد أن تمكنوا من شراء الشهادات من الجامعات الوهمية.

ويحضر الأطفال بقوة في الرواية إذ توقد الكاتبة الضوء الأحمر محذرة تارة ومستنكرة تارة أخرى، فمن مراكز الإيواء إلى المياتم إلى المدارس ثم إلى الشوارع مصورة ما يلاقونه من استغلال لحاجتهم وما يعانونه من عنف يرجع عليهم بأمراض نفسية عديدة، مركزة على المتسولين والمشردين منهم، مؤكدة على آثار فقدانهم التعليم وغياب المشاريع الجادة التي تعنى بهم وتجمعهم ليتعلموا، أو تسد رمقهم ليعيشوا حياة كريمة، مع الإشارة إلى أن بعض هؤلاء الأطفال ينضوون لشبكات اتجار تشغّلهم لحسابها.

وفي رحلة التوثيق التي اتبعتها الكاتبة تتجاوز الحاضر إلى الماضي فتتوقف مع حادثة نزع الحجاب في الشوارع التي قامت بها سرايا الدفاع بأمر من رفعت الأسد، مع عرض سريع لوحشية النظام وما فعله في مجزرة حماة في الثمانينيات من القرن الماضي. 

وبالعودة إلى الثورة ومآلاتها تتحدث أم السعد عن موقف الشباب الثائر من المؤسسة الدينية وخيبة أملهم من مواقف المشايخ الهزيلة، يقول أسامة: "هل اعتُقل أحدهم؟ هل رأى أحداً يُعذب أمامه؟ يموت؟ هل شُبحوا؟ هل مكثوا عدة أيام بالمنفردة؟ إذن لا تقولي عنهم ثوار"، كما يقول: "المشايخ الذين كانوا عصب الحياة الدمشقية نأوا بأنفسهم حتى عن إعلان الرفض لطريقة النظام في قمع المظاهرات".

وتشير الكاتبة إلى بيان المشايخ الهزيل في نيسان 2011، وكيف أن شباب الثورة حاولوا الاجتماع بالمشايخ والتفاوض معهم على موقف حازم دون جدوى، وكيف تغيرت صيغة البيان أكثر من مرة، وفي النهاية خذلوهم وقرروا إلغاء البيان حين تم تسريبه إلى الصحافة.

وبين الأحلام المتآكلة والأهداف الغائمة تنقلنا الكاتبة على متن قوارب الموت، وداخل الشاحنات المغلقة لنرى السوريين يقطعون الطرق باتجاه الحلم الأوروبي، مخاطرين بحياتهم، فنرى رحلة اللجوء التي يخوضها بلال، ثم سارة وعائلتها ضمن تصوير دقيق لما يتعرضون له من تعب ونَصَب وهروب من الشرطة، وصعوبة في التنقل وقطع الطرق الجبلية والنهرية في أسوأ الظروف، وتحكُّم المهربين بهم، وغرق كثيرين منهم، وفشل غيرهم، وعودتهم إلى إسطنبول كما حدث لسارة وعائلتها، بالإضافة لتصوير أوضاع الواصلين إلى أوروبا، وكيف تبدد حلم كثيرين منهم في مخيمات استقبالهم التي كانوا يلقون فيها صنوفاً من الذل.

وتأتي الرواية في مسيرة توثيقها لتمر على ذكر الائتلاف المعارض والموقف العام منه، بالإضافة لحضور بعض أعلام الثورة في أدوارهم الحقيقية، فنرى هادي العبد الله وخالد العيسى على نحو يحفظ لهم ذكرهم ولتبقى أسماؤهم حية للأجيال القادمة.

العــودة

وهي آخر فصول الرواية حيث يبرز الوطن المكلوم شوكةً تقض مضاجع كثير من الثوار حتى يقرروا إنهاء الألم والعودة إلى أأرض الوطن، لا لشيء إلا لإحساسهم أنهم ما زالوا على العهد، وأنهم باقون على قيد الثورة بجانب أهلهم الذين يعيشون تحت القصف، وعند المعبر يتجمع السوريون، وتجلو للعيون (حافة الوطن)، ويبدو الناس في الداخل محكومين بالأمل رغم شبح الموت الذي يخيم عليهم، ويهدد حياتهم مع كل صاروخ ينزل بغتة، يقول أسامة وهو يتجول في الداخل المحرر: "كيف لهم أن يعيشوا هنا؟.. يأكلون.. يحلمون.. يرسلون أولادهم للمدارس.. يموتون.. يخرجون جثثهم من تحت الأنقاض.. ينظفون المكان.. ويعادون الحياة؟".

وبينما يرجع حسام إلى إسطنبول ويستعد مع رغد لاستقبال مولودهما، يبقى أسامة مع الدفاع المدني في الداخل وحب سارة لا يفارقه على أمل أن تجمعهما أرض ما ذات يوم، وتكمل سارة الرسالة مع الأطفال السوريين في شوارع إسطنبول.

أسلوب الرواية

أجادت الكاتبة في جذب القارئ وشده ليتابع القراءة دون أن يشعر بالوقت، ومع سهولة العبارات وواقعية الوصف إلا أنها في كثير من الأحيان كانت ذات أسلوب واحد، فأغلب أبطال الرواية يتحدثون بذات الروح وذات المنطق، على نحو يجعل القارئ يرجع إلى أول الفصل ليتأكد من اسم المتكلم، كما تشابهت الأجواء العائلية لأغلب الشخصيات من حيث التوصيف العام للآباء والأمهات وحركاتهم وردود أفعالهم، وغاب البعد الدرامي لعلاقة الأبطال الأسرية، إذ نجد رغد وحيدة لأهلها، وكذلك سارة، وحسام، ويبدو أهل أسامة غائبين عن المشاهد كلها بعد سفره، وكذلك أهل حسام بعد شفائه، وتكثر الشخصيات في الرواية فنحصي ما لا يقل عن ثلاثين اسماً لشخصيات لا يكون لبعضها حضور بأكثر من سطرين أو ثلاثة.

 (على حافة الوطن) رواية توثيقية حية تعيد رسم واقعنا بالحروف ليحفظها القارئ في مكتبته حتى تكون من أوائل ما يعطيه لابنه ليمحو أميته تجاه الثورة والسوريين في هذه الفترة من الزمن داخل سوريا وخارجها