icon
التغطية الحية

"على بلد المحبوب".. حكايات المغمورين في أزمنة الحروب

2021.10.29 | 16:23 دمشق

sfynt_zmzm.jpg
سفينة زمزم (reveriezproductionz)
+A
حجم الخط
-A

بعد أشهُر قليلة من انتقال الصحفي أحمد خير الدين للعمل والعيش في العاصمة الأميركية، حلَّت مئوية ثورة 1919 في مصر، واكتشف أنه على بُعد عشر دقائق فقط عن مكتبة الكونجرس، وأن الدخول إلى ما يحويه قسم الشرق الأوسط في المكتبة الأكبر في العالم بسهولة التجوال في الحديقة الأمامية للمبنى. وجدها فرصة لاكتشاف صحف ووثائق تلك الفترة.

 وفي نهاية بحثه عن مقالات حول ثورة 19، قرأ هذا الخبر في أرشيف الجرائد: «وصل إلى القاهرة في الأسبوع الأسبق 66 مصريًّا عائدين من ألمانيا، بعد أن قضوا في الأَسْر أربع سنوات، وهُم من بحَّارة الباخرة (زمزم) التي أغرقها الألمان». عاد أحمد إلى مقعده مرة أخرى، واستأذن أمينة المكتبة في دقائق إضافية. بدا شوقه واضحًا وهو يُجري نظره على السطور لمعرفة ما جرى لهذه الباخرة، ويتساءل: كيف لم أسمع بهؤلاء من قبل؟!

اكتشف خير الدين قصة مشوِّقة، تبدأ مع الأسبوع الأول من آذار/ مارس عام 1934، حينما بدت السويس في أبهى حُلّة، وامتلأ شارع سعد باشا بالزينات والبَشَر، الذين أتوا ليشهدوا الاحتفال الكبير بوصول طلعت باشا حرب، ليفتتح أول رحلة للسفينة «زمزم»، التي كانت رمزًا للاستقلال الاقتصادي الوطني، وفرح بها الأديب أحمد حسن الزيات وكتب مقالة عن هذه اللحظة.

خفقت الأعلام الخضراء على سواري السفينة، وشعرت الموانئ المصرية المحتلة أن في أحضانها وليدًا من أهلها. عملت «زمزم» فترة لنقل الحُجّاج، لكنها في 28 كانون الأول/ ديسمبر 1940 انطلقت إلى نيويورك، أمّا مصر في ذلك الوقت فقد كانت مشغولة بمسألة اشتراكها في الحرب العالمية الثانية بجانب بريطانيا.

لكن مَن يسافر في تلك الأيام الخطرة؟ يوضح أحمد خير الدين في كتابه «على بلد المحبوب.. رحلة زمزم الأخيرة»، الصادر عن دار الشروق، أن الرحلة لم تكن مأمونة العواقب. كانت السفينة تحمل بضائع تجاوزت خمسة آلاف طن، معظمها من القطن المصري طويل التيلة الذي اشتراه تجار في بوسطن، أمّا القسم الأكبر من المسافرين فقد بلغ عددهم 125، معظمهم هاربون من مواقع الحرب في شمال أفريقيا وغيرها من المناطق التي أدرك الجميع أن المواجهات ستنتقل إليها، وأمّا البحّارة فعددهم 130 شخصًا، معظمهم مصريون.

مرَّت السفينة «زمزم» بقوس قزح أربع مرات، اختلف الركّاب في تفسير هذه الظاهرة، كان المبشِّرون يرونها علامة إلهية على حماية الرب لهم من الأهوال، في حين خشيَها البحارة لأن أساطيرهم تعتبرها نذير شؤم. مرَّت أيام السفينة هادئة وادعة، بل إنهم احتفلوا برأس السنة لعام 1941، وأعلنوا تنظيم مسابقة لاختيار ملكة جمال ركّاب الباخرة. وفي 25 فبراير 1941، وصلت الباخرة «زمزم» إلى ميناء نيويورك بعد أن قطعت مسافة 12 ألف ميل، ولاح تمثال الحرية من بعيد.

غادرت الباخرة «زمزم» نيوريورك في طريقها إلى كيب تاون حتى تعود إلى الإسكندرية، اختارت السفينة الطريق الطويل، طريق رأس الرجاء الصالح، هربًا من المعارك في البحر المتوسط بين ألمانيا وبريطانيا. وطَوال الرحلة أعتمت غُرَف السفينة، وأغلقت كل أضوائها، وأغلقت أيضًا جهازها اللاسلكي، خوفًا من هجوم الألمان عليها. ورغم كون مصر ليست في الحرب لكنها حليفة لإنجلترا.

اختارت السفينة السير عبر طريق رأس الرجاء الصالح خوفًا من مهاجمة الألمان لها في البحر المتوسط، وجاء عيد القيامة في 13 أبريل، فعمَّت الاحتفالات والأغاني أرجاء «زمزم». شارك البحّارة والطاقم مع الأطفال في ألعابهم، وحكوا لهم عن رحلاتهم مع الباخرة إلى أماكن بعيدة وجميلة. ورغم أجواء السعادة والمرح فقد كانت علامات التوتر بادية على الجميع.

وفي 17 نيسان/ أبريل، هاجمت المدمرة الألمانية الشهيرة «أتلانتس» السفينة «زمزم»، وبالتحديد في المسافة بين البرازيل وجنوب أفريقيا، بين ميناءَي رصيفي وكيب تاون. وسمع الركاب صوت القذائف، إذ استهدفت القذائف الأُولى كابينة اللاسلكي لمنع «زمزم» من الاتصال بأي باخرة أخرى، أو طلب الاستغاثة. حاول الركاب إعلان أن «زمزم» وركابها مسالمون، اعتقد الألمان أنها سفينة حربية لأن «زمزم» عملت ناقلة جنود بريطانية في الحرب العالمية الأولى. وكانت المفأجاة أنه لم يمُت أحد، وبعد غرق «زمزم» انتشلهم الألمان وانتقلوا إلى بارجة أخرى حملتهم إلى فرنسا.

ركزت الصحف المصرية في ذلك الوقت على رحلة هروب عزيز باشا المصري ومرافقيه، وتجاهلت خبر غرق السفينة «زمزم»، الذي ظهر خبرًا صغيرًا بصيغة استفهامية في الجريدة: «الباخرة زمزم.. هل غرقت في المحيط الأطلنطي؟».

وصل البحارة المصريون إلى المعتقل في ألمانيا، كان الطعام سيئًا، يتكون من الجَزَر أو البطاطس المسلوقة في الماء. اعتبرهم الألمان أصدقاء الإنجليز فلم يُفرِجوا عنهم، على عكس الأميركان الذين جرى تسليمهم خوفًا من استفزاز أميركا، مما يعجّل من مشاركتها في الحرب.

لم ينجُ المعتقلون المصريون من الجوع والعري إلا بعد ثلاثة أشهر منحة من الحكومتين المصرية والإنجليزية عن طريق الصليب الأحمر. انطوى عام 1941 ومعه قصة «زمزم»، وحين صدر عدد سنويّ من «الأهرام» في بداية العام الجديد، استعرض أهم الأحداث العالمية والداخلية خلال السنة المنقضية، ولم يأتِ على ذكر الحادث سوى اعتراض الحكومة على إغراقها فقط.

تعرض البحارة المصريون لسوء المعاملة، عدا الأيام التي تصل فيها حصتهم من المؤن عن طريق الصليب الأحمر، إذ كان الحراس يقاسمونهم ما يصل إليهم، وكان الحارس إذا أُعطي قطعة صابون فرح بها وكأنه وُهِب منزلًا. وكلّما طلب الأسرى المصريون إعادتهم إلى مصر قيل لهم إنّ ذلك سيحدث بعد دخول الألمان مصر، وتطهير أفريقيا من جنود الأعداء، أي الإنجليز والأميركان!

كانت لحظات صمت وأسى ودموع تسود عنابر المصريين حين ينطلق صوت أم كلثوم تغني كلمات أحمد رامي وألحان رياض السنباطي: «على بلد المحبوب ودّيني.. زاد وجدي والبُعد كاويني».

في تلك الأثناء كانت عناصر الجيش البريطاني تتجول بسعادة بين شوارع القاهرة يلتقطون الصور وهم يجرّبون الشيشة في خان الخليلي، أو يلعبون الورق في عوامة على النيل. وفي 24 نيسان/ أبريل 1945، وصلت قوات الحلفاء إلى المنطقة، ودارت معركة كبيرة مع الجيش الألماني، اجتاح معها الرصاص أرض المعسكر واستمرت لأكثر من أربعة أيام. وبعد أن انتهت المواجهات، أطلق الحلفاء سراح الأسرى الذين خرجوا إلى القرى المحيطة ليتمتعوا بالحرية، ويبحثوا عن سُبل العودة السريعة إلى أوطانهم.

لم يهتمّ أحد على ما يبدو برسائل المعتقلين، وفوجئ العائدون المصريون عند وصولهم إلى ميناء بورسعيد بمن يطالبهم بالبقاء في الباخرة والتوجه إلى ميناء السويس أولًا، من دون تقديم مبرر. وفي السويس لم يجدوا أحدًا في استقبالهم أيضًا، بل إنّ السلطات الحكومية طالبتهم بمصاريف عودتهم إلى أرض الوطن.

وحين سأل عن راتبه الذي جُمِّد منذ إغراق «زمزم» وسط المحيط ولم يحصل عليه أو يسلَّم إلى عائلته، فوجئ القبطان جمال عمر، وهو أحد البحّارة المعتقلين، بخصم نصف المبلغ الذي وصل إلى 500 جنيه مصاريف عودة. أمّا القبطان الإنجليزي ومساعده فحصلا على راتبَيهما كاملَين مع علاوات وإعانات عن مدّة الأَسْر، تجاوزت ألوف الجنيهات.

انتهى حديث الصحافة المصرية عن البحّارة وما جرى لهم باستغاثة حزينة مقتضبة من حسن خليل حسن نيابة عن زملائه، أرسلها إلى جريدة «المقطم» في 6 يناير 1951، يرجو حكومة الشعب أن تنصفهم بعد عشر سنوات مما جرى لهم.

ورغم عدم تعرض الركاب الأميركان لسنوات الاعتقال، فإنهم رأوا في حادثة «زمزم» معجزة ورمزًا للنجاة من الغرق، وخصصوا قسمًا في مكتبة تابعة لكنيسة في شيكاغو للمقتنيات المتعلقة بالسفينة «زمزم»، من رسائل شخصية ومراسلات وكتب وثَّقت الواقعة، على عكس قصة الركاب المصريين الذين جرى تجاهل قصتهم.

سطر واحد قرأه أحمد خير الدين جعله يقضي سنتين في البحث عن مصير ركاب السفينة «زمزم» المصريين وحياتهم، وتبدو براعة الكاتب في جمعه بين حكاية السفينة وأجواء العصر والأحداث التاريخية التي عصفت بمصر في تلك الفترة، كأنه يراوح بين السفينة وتاريخ مصر بخفة ورشاقة، وبين حكايات بعض الناجين والأوضاع العالمية في هذا العصر المضطرب. نجح خير الدين في حكاية القصة، رغم استعصاء الكتاب على التصنيف الأدبي الواضح، فهو ليس رواية ولا سيرة، لكنه يجمع بين اللونين، ويبدو أن هذا التقليد الكتابي الذي يقترب من التحقيق الاستقصائي في التاريخ يحتل مساحة أكبر داخل المكتبة العربية، وهو تقليد يعتبر أهمّ أعمدته الصحفي صلاح عيسى في تحقيقاته عن ريا وسكينة، وجريمة قتل مدام فهمي، وبحثه عن خُط الصعيد في عهد الاحتلال، وأخيرًا رأينا كتاب إيمان مرسال بعنوان «في البحث عن عنايات الزيات» يستكمل حكاية كاتبة انتحرت، ويجمع بين حكايات الكاتبة وقصة الراحلة، وكذلك كتابات محمد شعير مثل «أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة».

كتاب «على بلد المحبوب» هو الكتاب الثالث لأحمد خير الدين، سبقه كتاب «بعلم الوصول»، وهو كتاب مميز جمع فيه رسائل من شخصيات مصرية في عصور مختلفة، من عهد الاحتلال البريطاني إلى فترة السبعينيات، واستنطق تلك الرسائل لتعطينا من هموم العصر الذي كُتبت فيه، كأنّ خير الدين مشغول في كل ما يكتب بحكايات المغمورين والبسطاء الذين سكت عنهم التاريخ، لأن الرواية التاريخية تفرد صفحاتها لحكايات العظماء وتتجاهل الناس، لذلك مثّلت حكاية السفينة «زمزم» رمزًا لحكايات المدنيين في الحروب، وكيف أن تقلبات هذه الحرب العالمية الكاسحة ازدرت سيادة الدول وأنكرت حياد مواطنيها الذين طالتهم خلال مساراتها، بحّارة يُعتقلون في معسكرات نازية، وحرب عالمية تُلقي بظلالها على مصاير الناس، وصحافة مشغولة بالأخبار المحلّية، ومعتقلون لا تسأل عنهم حكومتهم.