علوم الحيَل وثلاثة أوجه للحضارة الإسلامية

2020.07.03 | 00:05 دمشق

bnw_mwsy.jpg
+A
حجم الخط
-A

عرفت حضارتنا الإسلامية ثلاثة علوم للحيل.

ــ علم الحيل الميكانيكية.

ــ علم الحيل الساسانية.

ــ علم الحيل الفقهية.

وكل علم من هذه العلوم يقدّم وجهاً مختلفاً لهذه الحضارة شديد الاختلاف عن الوجه الآخر فمرةً هي حيل تبني وتنتج وتطور، ومرةً هي حيل تهدم وتقوّض وتقلقل.

تلقفت هذه الحضارة العلم الأول (علم الحيل الميكانيكية) من الهند واليونان، وعرفت ضرورته ولزومه، واستوعبت مداخله ومخارجه، فطوّرته وأغنته ونفخت فيه الروح الإبداعية المبتكرة. كان هذا العلم فرعاً من فروع الهندسة التي ضمّت إلى جانبه الفروع التالية التي يذكرها القلقشندي في كتابه صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ويذكر أهم من ألّف فيها الكتب والمصنّفات: علم عقود الأبنيـة، وصنّف فيه ابن الهيثم والكرخي، وعلـم المنـاظر، وصنّف فيه علي بن عيسى الوزير، وابن الهيثم، وعلم المرايـا المحرقـة، وصنّف فيه ابن الهيثم، وعلـم مركـز الأثقـال، وصنّف فيه أبو سهل الكوهي، وعلـم المسـاحة، وصنف فيه ابن مجلى الموصلي وابن المختار، وعلم إنبـاط المياه، وصنّف فيه الكرخي وابن وحشية، وعلم جر الأثقـال، ويبدو أنّ العرب لم يُصنّفوا في هذا العلم فاكتفى القلقشندي بذكر بعض المصنفين فيه، وعلم الآلات الحربية، وقد صنّف فيه أبناء موسى، وعلم الآلات الروحانية، وأشهر كتاب صُنف فيه هو كتاب الحيل لأبناء موسى بن شاكر، وفيه كتاب مبسوط للبديع الجزري.

ولدى التأمل ندرك أنَّ هذه الفروع كانت تتداخل جميعاً فيما بينها، ولذلك فإن علم الحيل قد امتدت تطبيقاته إليها كلها، وهذه التطبيقات وما خالطها من روح علمية حقيقية هي التي جعلت مؤرخ العلم المشهور جورج سارتون يقول: "إن بعض المؤرخين يحاولون أن يبخسوا ما قدمه العرب والمسلمون للعالم، ويصرّحون بأن العرب والمسلمين نقلوا العلوم القديمة ولم يضيفوا إليها شيئًا [...] وإن هذا الرأي خطأ جسيم؛ فقد كان العرب أعظم معلِّمين في العالم، وقد زادوا على العلوم التي أخذوها، ولم يكتفوا بذلك بل أوصلوها إلى درجة جديرة بالاعتبار من حيث النمو والارتقاء".

ونقرأ في مقدمة ابن خلدون نصاً بالغ الدلالة يقول فيه: "واعلم أنّ الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره لأنّ براهينها كلّها بيّنة الانتظام جليّة التّرتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع، وقد زعموا أنّه كان مكتوباً على باب أفلاطون: (من لم يكن مهندساً فلا يدخلنّ منزلنا)، وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون: (ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصّابون للثّوب الّذي يغسل منه الأقذار وينقّيه من الأوضار والأدران)، وإنّما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه". وكأنّ ابن خلدون ههنا يورد مقولة مشايخه ليضاهي بها مقولة أفلاطون، ويقول من خلال ذلك إن وعينا لأهمية علم الهندسة يساوي وعي اليونانيين إن لم يتفوق عليه.

وبقليل من البحث في الإنترنت اليوم سوف نشاهد تطبيقات علم الحيل المعتمدة على حركة الهواء والسوائل، والصمّامات الآلية ذات التشغيل المتباطئ، وطرق التحكم الآلي والتشغيل عن بعد التي تفتقت عنها مخيلات أجدادنا، ونرى فيها دقة حساباتهم وبراعة تنفيذهم، وسوف نشاهد الآلات الموسيقية الذاتية الحركة أيضاً، وسنجد كلاماً علمياً كثيراً عن مساهمات أبناء شاكر ومن تلاهم في هذا العلم الذي أضفى على العالم الإسلامي إبان زمن أولئك المخترعين الصيت الذي تمتلكه اليوم اليابان أو ألمانيا أو أية دولة صناعية متفوقة.

علم الحيل الساسانية: علم يُعرف به طريق الاحتيال في جلب المنافع، وتحصيل الأموال

وفي وجه آخر من وجوه هذه الحضارة سنقع على العلم الذي دُعي بــ(علم الحيل الساسانية)، ويعرّفه لنا حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون فيقول: "علم الحيل الساسانية: علم يُعرف به طريق الاحتيال في جلب المنافع، وتحصيل الأموال، والذي باشرها يتزيى في كل بلدة، بزيٍّ يناسب تلك البلدة، بأن يعتقد أهلها بأصحاب ذلك الزي، فتارةً يختارون زيَّ الفقهاء، وتارة يختارون زي الوعاظ، وتارة يختارون زي الأشراف، إلى غير ذلك.

ثم إنهم يحتالون في خداع العوام بأمور تعجز العقول عن ضبطها، منها: ما حكى واحد أنه رأى في جامع البصرة قرداً على مركب، مثل ما يركبه أبناء الملوك، وعليه ألبسة نفيسة نحو ملبوساتهم، وهو يبكي وينوح، وحوله خدم يتبعونه ويبكون، ويقولون: يا أهل العافية اعتبروا بسيدنا هذا! فإنه كان من أبناء الملوك، عشق امرأة ساحرة، وبلغ حاله بسحرها إلى أن مسخ إلى صورة القرد، وطلبت منه مالاً عظيماً لتخلصه من هذه الحالة. والقرد في هذا الحال يبكي بأنين وحنين، والعامة يرقّون عليه ويبكون، وجمعوا لأجله شيئاً من الأموال، ثم فرشوا له في الجامع سجادة فصلى عليها ركعتين، ثم صلى الجمعة مع الناس، ثم ذهبوا بعد الفراغ من الجمعة بتلك الأموال".

نُسب هذا العلم إلى ساسان، وقيل إنه كان رجلاً فقيراً حاذقاً في الاستعطاء، دقيق الحيلة في الاستجداء، فنُسب إليه المكدون، أي: الشحاذون. ونحن نلحظ ههنا المعنى التحقيري لدولة الساسانيين الفارسية التي انهارت بضربات الدولة الرومانية أولاً ثم الدولة العربية الإسلامية ثانياً، وربما كانت هذه التسمية رداً على النزعة الشعوبية التي استعلى بها الفرس على العرب، فأراد العرب من خلال هذه التسمية أن يذكّروهم بأنهم بعد أن كانوا ملوكاً أصبحوا شحاذين.

ونقع في تراثنا الأدبي على أخبار التطبيقات العديدة لهذا العلم، وعلى قصصه التي يختلط فيها غباء العامة وقلة عقلهم بذكاء أرباب الحيل ودهائهم، لكن هذه القصص تكشف أيضاً عن طابع الفقر والعوز والخلل في توزيع المال والثروة في المجتمع آنذاك، وتنبئ عن ضعف بنية النسيج الاجتماعي، وإنَّ تتبع أخبار هذا العلم تميط اللثام عن نفاذ صبر الناس وعدم تحملهم مكابدة الظروف المعيشية القاهرة التي لا تنتج إلا عن فساد وظلم. ولعل بديع الزمان الهمداني والحريري استشعرا كلّ ذلك عندما كتب كل واحد منهما مقامة وضع لها العنوان نفسه: (المقامة الساسانية)، وكان بطل مقامة الهمداني المكدي العظيم أبو الفتح الإسكندري، وبطل مقامة الحريري أبو زيد السروجي.

أما العلم الثالث الذي يقدّم جانباً آخر من جوانب هذه الحضارة فهو (علم الحيل الفقهية)، وهو العلم الإسلامي الخالص الذي نشأ من رحم هذه الحضارة من دون أن تستعيره من رحم آخر، نُسب هذا العلم للمذهب الحنفي الذي تبنّى القول بالحيل الفقهية وتوسّع فيها، وألّف المنتسبون إليه في ذلك المؤلفات العديدة، وأتى المذهب الشافعي دونه درجةً في الأخذ به، أما المذهب الحنبلي فأنكره غاية الإنكار، وكان دونه في ذلك المذهب المالكي.

انطلق علم الحيل الفقهية على يد الإمام أبي حنيفة من هدف نبيل، عبّرت عنه الكلمة المرادفة للحيل وهي (المخارج)

انطلق علم الحيل الفقهية على يد الإمام أبي حنيفة من هدف نبيل، عبّرت عنه الكلمة المرادفة للحيل وهي (المخارج)، حيث تملّكت مؤسس المذهب روح التيسير على البشر وإيجاد المخارج لهم من الصعوبات التي يصادفونها في رحلة ممارستهم الدينية، غير أنّ ما نُقل عنه من قصص وروايات حول هذه الحلول التي كان يقدمها يجعلنا نعجب من اختلاف مستوياتها التي تتراوح ما بين الحذق والألمعية والركاكة والإسفاف، وقد حفظت لنا كتب الحيل الحنفية كثيرا من هذه القصص التي نرى فيها جميع هذه المستويات.

أما موقف المذهب الشافعي فيقول المستشرق البلجيكي الأب لامنس في مقال له عن (الحيل والمخارج في الفقه الإسلامي) وقد كتبه بمناسبة صدور تحقيق المستشرق الألماني جوزيف شاخت لكتاب (الحيل والمخارج) للخصاف الحنفي عام ١٩٢٣: "أما الشافعيون فطرحوها في أول الأمر، كلّ الطرح، حتى إنّ البخاري وكان من الشافعة [هكذا] حرّمها في صحيحه بكلام لا يحتمل التأويل، إلا أنهم عندما نظروا بعد ذلك إلى نجاح النظرية وتقدّم المذهب الحنفي مالوا عن جفائهم شيئاً فشيئاً، وأخذوا هم أيضاً يؤلفون الرسائل والكتب في الحيل".

غير أنّ هذه الكتب التي انطلقت في البداية للتخفيف عن الناس وإراحة ضميرهم الديني تجاوزت الحد، وخرجت إلى ضرب من ضروب التهتك والاستهزاء بالقانون، وأصبحت مدرسة تضاهي مدرسة الحيل الساسانية، بل وغُيّب الضمير تماماً، وغدا الأمر محض تلاعب ومخادعة ومماذقة، باجتراح حلول تميت روح الشرائع وتعبث بالقوانين، بتعليم الناس المخاتلة في النيات والألفاظ على حدّ سواء. وأكتفي هنا بضرب هذا المثال التعليمي من كتاب جنة الحكام وجنة الخصام في الحيل والمخارج للسمرقندي الحنفي الذي يقول فيه: "من أراد أن لا تجب عليه الزكاة فالحيلة له أن يترك الكسب، ولا يجمع المال أكثر من قوته وكفايته حتى لا تجب عليه الزكاة". ويا لها من حيلة خارقة تبني الأوطان وتدعم الإنسان!

ومن أجل ذلك انبرى الحنابلة للرد على هذه الكتب فكان ابن بطة العكبري رائدهم في الكتابة ثم تلاه القاضي أبو يعلى فنجم الدين الطوفي فابن تيمية فابن القيم الجوزية.

ومع انهيار الخلافة العباسية بدأ علم الحيل الميكانيكية بالاندثار شيئاً فشيئاً، وترك المساحة كلها لعلم الحيل الساسانية والحيل الفقهية يتغلغلان في روح هذه الأمة، وينزلقان بها من درك إلى درك، وما زلنا حتى هذه اللحظة نتفاجأ بصورة جديدة من الحيل الساسانية أو الحيل الفقهية.