icon
التغطية الحية

علاقة تاريخية وارتباط وثيق.. كيف اتفق الأدب مع الطبّ؟

2022.01.14 | 15:03 دمشق

adba_atba-_tlfzywn_swrya.jpg
محمد أسد الخليل
+A
حجم الخط
-A

من خلال عمليّة بحث بسيطة نجد عشرات الكتب والأبحاث والدراسات والمقالات التي بحثت في عمق العلاقة والترابط الوثيق بين الأدب والطبّ؛ ومن جميل ما كُتب حول هذا الموضوع  كلام نُسب لـ أسامة الشاذليّ، أستاذ طبّ العظام بجامعة عين شمس المصرية، والروائيّ الذي صدرت له عدة روايات تمّ تحويل إحداها "سنوات التيه" إلى مسلسل إذاعيّ.

يرى الشاذلي أنّ العلاقة بين الأدب والطبّ وثيقة جدّاً؛ فالطبّ مهنة تعتمد على دقّة الملاحظة بدءاً من ملاحظة المرض والأعراض وشكاوى المريض وما يطرأ عليها من تغيّرات، كذلك فإنّ الأدب يعتمد على دقّة الملاحظة والمتابعة للأحداث الراهنة والشخوص المحيطة، والطبّ يعتمد على التواصل بين الطبيب والمريض، ونفس الأمر فإنّ الأدب يعتمد على التواصل بين القارئ والكاتب.

وعن تلك العلاقة أيضاً يقول الروائيّ محمّد حسن علوان في روايته "سقف الكفاية": "الكتابة نقص المناعة المكتسبة للروح، كما الإيدز نقص المناعة المكتسبة للجسد".

ويرى آخرون أنّ علاقة الطبّ بالأدب تبدأ من أنّ مصدر كليهما الألم الإنسانيّ؛ فالأدب والطبّ رافدان يصبّان في نهر الألم الإنسانيّ، كما أنّ الألم يكشف جانباً مظلماً من جوانب النفس البشريّة سواء أكان ذلك الألم نفسيّاً شعوريّاً أم جسديّاً عضويّاً. وكما يبرّئ الطبّ البدنَ ويعالجه من الأمراض الجسديّة، كذلك يبرّئ الأدب الروحَ ويعالجها من أمراضها النفسيّة.

أمثلة تاريخية عن أطباء أدباء 

تاريخياً، نجد بأنّ ثمة علماء موسوعيّين كانوا أطبّاء وأدباء في نفس الوقت، يأتي في مقّدّمتهم ابن سينا مؤلّف كتاب "القانون في الطبّ" الذي علّم أوربّا الطبّ في عصور ظلامها قروناً، وقد نظم ابن سينا الشعر بالعربيّة والفارسيّة. ومن الأطبّاء الأدباء العرب القدامى ابن زهر الإشبيليّ، كان ابن زهر طبيباً أباً عن جدّ، وكان أستاذاً لابن رشد، ترك ابن رشد عدّة مؤلّفات طبّيّة متخصّصة، منها كتابه عن أمراض الكلى.

وفي أوربّا يُعدّ الفرنسيّ فرنسوا رابليه (القرن الـ16 الميلادي)من الشخصيّات النهضويّة، وهو الروائيّ الذي درس الطبّ وصار طبيباً متأثّراً بابن سينا.

جيفارا.. الطبيب والأديب والثائر

أغلبنا قرأ وسمع عن الأرجنتينيّ الثائر جيفارا الذي اشتهر بثوريّته حتّى أصبح رمزاً للثورة في نظر الكثيرين، ولكنّ معظمنا لا يعرف أنّ جيفارا كان طبيباً و أديباً؛ دخل جيفارا كلّيّة الطبّ في بوينس آيريس واهتمّ بعدوى الجذام السائدة في أمريكا الجنوبيّة، فقرّر اقتطاع سنة من سنوات الكلّيّة ليقوم برحلة عل ظهر درّاجة في أرجاء قارّة أميركا الجنوبيّة ليدرس هذه العدوى ميدانيّاً، وقد وثّق هذه الرحلة وما عاينه فيها في عمله الأدبيّ اليتيم "يوميّات درّاجة ناريّة" الذي يعرّفك على جيفارا قبل الثورة، لكن سرعان ما حلّت الثورة مكان الطبيب والأديب في نفس جيفارا حتّى إعدامه في بوليفيا عام 1967

أدباء أطباء إنكليز

في بريطانيا ظهر الروائيّ والقاصّ سومرست موم، الذي نشر أوّل أعماله الأدبيّة "ليزا اللامبثيّة" وهو طالب طبّ في الجامعة، وفوجئ بنفاد طبعتها بسرعة ممّا شجّعه على ترك الطبّ والتفرّغ للأدب.

وفي بريطانيا نفسها عاش جون كيتس، الشاعر الرومانسيّ الذي ذاع صيته بعد وفاته بأنّه أهمّ وجوه الشعر الرومانسيّ. كان كيتس طبيباً يعمل في مستشفى "جاي"، وكان له رأي بأنّ الطبّ كعلم يقوّض قدرتنا على استشعار الجمال. وبسبب استهلاك الطبّ لوقته ومال عائلته في تكاليف الدراسة قرّر بعد ستّة أشهر من عمله هجر الطبّ نهائيّاً.

نذكر أيضاً الروائيّ الإسكتلنديّ توبياس سمولت المتأثّر بالأدب الإسبانيّ، والذي ترجم رواية سرفانتس الشهيرة "دون كيخوته" من اللاتينيّة إلى الإنكليزيّة. تعلّم سمولت الطبّ في جامعة غلاسكو وجامعة إدنبرة قبل إرساله في بعثة عسكريّة إلى جامايكا، وحين عاد إلى إسكتلندا لم يستطع ممارسة الطبّ لعدم تمكّنه من تأسيس عيادة، فقرّر ترك الطبّ والتفرّغ للأدب.

تركوا الطب لأجل الأدب في العالم العربي

في العالم العربيّ، نجد فرنسيس مراش الذي مال للطبّ منذ صباه ولازم طبيباً بريطانيّاً في حلب لنحو 4 سنوات إلى أن قرّر السفر إلى باريس محجّ التعليم الطبّيّ آنذاك. وحين عاد إلى حلب عزف عن الطبّ، وقد ترك أعمالاً أدبيّة أبرزها رواية "غابة الحقّ" التي عرض فيها فلسفته في الحياة.

وإلى جانب مراش نجد الشاعر الطبيب أحمد زكي أبو شادي من جماعة "أبولو" الشعريّة الذي درس الطبّ في مصر ثمّ في بريطانيا قبل أن يهجر الطبّ ومصر معاً ويمتهن في الولايات المتّحدة الأميركيّة التجارة والإذاعة.

وبالمناسبة، فإنّ "أبولو" الذي اتخذه الشعراء اسماً لمدرستهم الشعريّة التجديديّة، هو اسم الإله اليوناني المعروف، والذي يعدّ إلهاً للوباء والشفاء والشعر معاً بالإضافة إلى كونه إلهاً للحرب والشمس.

 ولا يفوتنا ذكر الكاتب المعروف مصطفى محمود مؤلّف كتاب "حوار مع صديقي الملحد" الذ مارس الطبّ لسبع سنوات ثمّ هجره ليتفرّغ للكتابة ونشاطاته الأدبية الأخرى. وكذلك الطبيب النفسيّ المصريّ يوسف إدريس، الذي يُعدّ من أبرز روّاد القصّة العربيّة.

الطب والأدب جنباً إلى جنب:

  • تشيخوف

كُثر هم الذين مارسوا الطبّ إلى جانب الأدب ولم يهجروه؛ ولعلّ أشهرهم تشيخوف، عملاق القصّة الروسيّة وصاحب المقولة الشهيرة "الطبّ زوجتي الشرعيّة والأدب عشيقتي، حينما أضجر من إحداهما أمضي ليلتي مع الأخرى".

كان طبيباً ومريضاً بنفس الوقت، عاش مع مرض السلّ الذي قوّض ريعان شبابه، وكتب القصص في أثناء دراسته ليصرف بعوائدها على نفسه وأهله. الطبّ في رأيه لا يغذّي الخيال، بل يسهم في حيازة نظرة جافّة للحياة. ولكنّه يستدرك بعد سنوات أنّ الطبّ وسّع مداركه وأثرى معارفه بطريقة يصعب على غير الطبيب تقديرها.

ظلّ تشيخوف يمارس الطبّ حتّى أقعده المرض عن ذلك بل وقضى عليه في عمر الرابعة والأربعين تاركاً إرثاً أدبيّاً خالداً.

  • الشاعر الأميركي وليام وليامز

ومن هذا النمط نجد في الولايات المتّحدة الأميركيّة وليام كارلوس وليامز الذي نجح في مزج الأدب والطبّ بشكل عمليّ؛ حيث كان يكتب القصائد على ظهر ورقة الوصفة الطبّيّة في الوقت الذي كان ينتظر مريضه القادم للعيادة. يقول وهو الذي ولّد مئات الأطفال أنّه لا توجد طقوس خاصّة لكتابة الشعر، فتلك عمليّة مثل أيّة عمليّة أخرى، مثلها مثل عمليّة توليد الأطفال، فكان يعالج المرضى كأنّهم أعمال فنّيّة.

  •  الطبيب صاحب "الأطلال"

ويأتي في مقدّمة الأدباء الأطباء العرب، إبراهيم ناجي، الطبيب والشاعر صاحب قصيدة "الأطلال" الرائعة.

وعن الجمع بين الطبّ والأدب يقول ناجي:

والناس تسأل والهواجس جمّة       طبّ وشعر كيف يتّفقـــــــانِ!

الشعر مرحمة النفوس وسرّه        هبة النفوس ومنحة الديّــــانِ

والطبّ مرحمة الجسوم ونبعه       من ذلك الفيض العليّ الشانِ

تجاوزت أعمال ناجي التأليف إلى الترجمة، وظلّ مخلصاً لمرضاه حتّى توفّي في لحظة سورياليّة في عيادته وهو يستمع لقلب مريضه.

 

 

وعلى سبيل الذكر لا الحصر نذكر العديد من الأدباء الأطبّاء العرب ومنهم رائد أدب الرعب العربيّ الطبيب المصريّ أحمد خالد توفيق الذي عُرف بغزارة إنتاجه الأدبيّ، وكان أحد كُتّاب المجلّة الإمارتيّة الشهيرة "ماجد" والتي كانت موجّهة للطفل العربيّ. وكذلك طبيب الأسنان الروائيّ علاء ابن الأديب عبّاس الأسوانيّ.

  • أدباء سوريا وأطبّاؤها

ولمعت في سوريا أسماء جمعت بين الأدب والطبّ لتنال شهرة واسعة، كالطبيب علي الناصر الذي درس في إسطنبول وباريس والذي لقّبه العقّاد بـ "بودلير الشعر العربيّ" وهو أوّل من خطا تجاه تجديد الشعر العربيّ.

وكذلك الأديب الطبيب وجيه الباروديّ الذي تخرّج من كلّيّة الطبّ في الجامعة الأميركيّة في بيروت، ومن طرائفه أنّه أوّل صاحب درّاجة في دمشق استخدمها لتطبيب الناس، يقول البارودي حول جمعه بين الطبّ والأدب:

أتيت إلى الدنيا طبيباً وشاعراً       أداوي بطبّي الجسم والروح بالشعرِ

ولا ننسى القاص والروائيّ والسياسيّ عبد السلام العجيليّ الذي تخرّج من كلّيّة الطبّ في دمشق والذي شغل مناصب مختلفة منها رئيس اتّحاد الكتّاب.

  • أدباء وأطباء في اختصاصات متعددة

ونذكر من مختلف البلدان العربيّة، الشاعر والروائي والطبيب المشهور الطيّب صالح وابن أخته الأديب والطبيب أمير تاج السرّ. ومن العراق الشاعر وجرّاح الأنف والأذن والحنجرة وليد الطرّاف الذي حاز جائزة برنامج "أمير الشعراء" عام 2009

ومن السعوديّة طبيب الأسنان الشاعر عصام خوقير، وكذلك الطبيب الجرّاح منذر قبّاني الذي اشتهر بسبب روايته "حكومة الظلّ" التي لاقت رواجاً واسعاً لاعتمادها على عنصر التشويق وحسّ المؤامرة.

ومن المغرب بوشعيب المسعوديّ الطبيب والقاصّ والمخرج الحائز جائزة المهرجان الدوليّ للفيلم بدلهي عام 2015 عن فيلمه الوثائقيّ "أثير الألم" موثّقاً فيه معاناة مريض روماتيزم.

تجارب أدبية/ طبّية خاصة

وهناك نمط من الأدباء الأطبّاء، كان أدبهم محصور بتجربتهم في السيرة الذاتيّة المباشرة، سواء أكانت هذه التجربة من أروقة المستشفى أم من خارج عوالم الطبّ تماماً، فهم يولون العلم والطبّ أولويّة على الأدب، لذلك يأتي أدبهم تابعاً لمسارهم العلميّ المهنيّ.

ونذكر من هذا النمط البريطانيّ طبيب المخّ والأعصاب أوليفر ساكس الذي ألّف كتاباً بعنوان "عين العقل" حكى فيه عن فقدانه البصر في عينه اليمنى إثر إصابته بسرطان الميلانوما. وختم ساكس سيرته بكتابه "حياتي" حين علم باستفحال السرطان في جسده محتّماً عليه الموت القريب.

 وهناك نوع نادر من العلماء الأدباء الأطبّاء الذين تمكّنوا من النجاح في المجالات الثلاثة، منهم الشاعر والعالم والطبيب الألمانيّ بول فيليمنغ الذي عاش في القرن السابع عشر.

ومن هذا النمط في العالم العربيّ جرّاح العظام المصريّ محمّد كامل حسين، الذي كان عضواً في مجمع اللغة العربيّة إضافة لعضويّته في المجمع العلميّ المصريّ، وألّف عدّة أوراق علميّة ومؤلّفات أدبيّة، منها رواية "قرية ظالمة" التي تُرجمت لستّ لغات.

ونقل أحد تلامذة حسين، إجابته حين سُئل عن أفضل طريقة لتعلّم الطبّ: "هناك طريقة واحدة للتعلّم ولتصبح طالب طبّ جيّداً عليك أن تجلس بجانب سرير المريض وتتحدّث معه وتفحصه وتتعلّم منه ثمّ تذهب إلى البيت وتقرأ شكسبير".


المصادر والمراجع:
"نقد رومانسيّة العلاقة بين الطبّ والأدب" بحث لـ سلام نصر الله على موقع ومنصّة "معنى"
"الأدب يغري أصحاب مهنة الرحمة" مقال لـ مصطفى عبيد على موقع العرب.
3ـ "الأطبّاء الأدباء" مقال لـ محمّد السنوسيّ على موقع إسلام أون لاين.
4ـ "الأدب والطبّ وجهان لعملة واحدة" مقال لـ ياسر الدبّاغ في مجلّة نبض.
"العلاقة بين الطبّ والأدب" كتاب لـ محمود عبد العزيز الزعبيّ.
6ـ "دقائق بين الطبّ والأدب" كتاب لـ أحمد محمود طه مكّي.
"الطبّ والأدب" كتاب لـ عبد الله الرشيد.