عقد زمني عربي مخيف هل سيكون العقد المقبل أفضل؟

2022.01.26 | 05:11 دمشق

tunisia_unrest_-_voa_-_tunis_14_jan_2011_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

عقد كامل من الزمن ينقضي هذه الأيام ليبدأ عقد جديد لا أحد يدري مصيره، عقد كامل على انطلاقة الربيع العربي حدث خلاله ما يشبه القيامة في عالمنا العربي من محيطه إلى خليجه، لم تنج من آثاره دولة واحدة، حتى الدول التي لم تشهد أي حراك، فقد طالها أثر الربيع العربي وغيّر في بنيتها الثابتة منذ زمن، وربما يمكننا القول أيضا إن أثر ما حدث في بلادنا عام 2011 وما تلاه من أحداث مهولة، لم يقتصر تأثيره على هذه المنطقة من العالم فقط، بل شمل دول العالم كله، فليس فقط  بسبب وصول ملايين اللاجئين العرب إلى دول العالم المتقدم هربا من تداعيات انتفاضات لم يكن متاحا لأحد تقدير ما ستصل إليه حالها: (دمار وموت وجرائم وتشرد وجوع ولجوء وخوف واعتقالات وحروب وانهيارات اقتصادية وأزمات معيشية خانقة وفقدان لأي آفاق مستقبلية والدخول في عنق زجاجة مصمتة وعودة الديكتاتوريات بأعنف مما كانت وظهور مافيات جديدة متحالفة: تجار الأزمات والسلاح والسلطة والدين)، ولكن أيضا بسبب تأثير ربيع العالم العربي على السياسات الداخلية والخارجية لتلك الدول، سواء في الإقليم أو في العالم، فوصول اللاجئين بأعداد كبيرة إلى هذه الدول منح فرصة للأحزاب المعارضة (لاسيما اليمين المتطرف والشعبوي) بأن تستقطب أعدادا أكبر من الناخبين والمؤيدين الخائفين من تغيير هوية مجتمعاتهم، خصوصا مع ظهور الحركات الإسلامية الراديكالية بكل البروباغندا الإعلامية التي رافقتها، والتحاق بعض من الأوروبيين بها، والتي عززت حالة الإسلاموفوبيا لدى الغرب الذي تعرضت مدنه لهجمات إرهابية متنوعة ومتعددة، تبنتها تلك التنظيمات مباشرة، ونفذها عرب ومسلمون يحمل بعضهم جنسيات تلك الدول، وينتظر بعضهم الآخر ممن وصل إليها حديثا حصوله على الجنسية؛ كما أن ما حصل في العالم العربي أعاد تشكيل تحالفات إقليمية ودولية جديدة، كما لو أن خارطة سياسية جديدة قد تم رسمها، تحالفات لا تأخذ بالحسبان ما تتعرض له شعوب هذه المنطقة من ويلات وكوارث وجرائم دولة منظمة وممنهجة، ولا تفكر بمستقبل هذه المنطقة القريب ولا البعيد، وكأن هنالك قرارا ما تم اتخاذه بترك هذه المنطقة كما هي: بؤرة استقطاب وتجاذبات وتحالفات سياسية وعسكرية، وبيئة مناسبة لتجارة الأسلحة أو لتجريب كل ما تنتجه مافيات السلاح في العالم، وكل ما تنتجه مافيات الخراب الأصولية السياسية والدينية.

لننظر برهة إلى واقع عالمنا العربي الحالي: بلاد الشام والعراق تعيش انهيارات مجتمعية واقتصادية ومعيشية مهولة، حروب ودمار وفساد أنظمة حاكمة وقمع واحتلالات من دول إقليمية ودولية، وانقسامات طائفية ومذهبية وإثنية فتكت تماما بما تبقى من هذه المجتمعات التي يتم تغيير ديموغرافيتها  وهويتها لصالح أجندات دول إقليمية تفرض سيطرتها السياسية والعسكرية والاقتصادية تحت عباءة الدين والمذهب، مستغلة تجريف مجتمعات هذه الدول من مدنيتها ومواطنيتها والذي حدث عبر نشاط استبدادي استمر لعقود طويلة من الزمن.

ليبيا التي دمر القذافي بنيتها الاجتماعية والوطنية لم تستطع النجاة بعده، ظهرت أمراضها العشائرية والقبلية وأنهكتها عشر سنوات من الحروب المتواصلة والاستنزاف الذي قضى على ما تبقى فيها من بنى تحتية ومن بعض الأمان المجتمعي، وطبعا من أي ملمح مدني كان يمكنه إنقاذ القليل منه. أما تونس فهي تفقد شيئا فشيئا كل إرث المدنية التي وضعها بورقيبة وتستعيد حاليا سردية استبداد تتفوق على ما كانت عليه قبل 2011، يترافق ذلك مع فساد على كل المستويات ومع سوء شديد في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وانقسامات سياسية بين العلمانيين والإسلاميين، مما يشكل خطرا كبيرا على كل المنجزات المدنية التي تحققت في السابق والتي ميزت تونس لزمن طويل عن باقي دول العرب. ولم يستطع الحراك الجزائري ورحيل بوتفليقة أن يغير قليلا من الوضع المعيشي المتردي، ولا من الفساد الإداري، ولا من المنظومة القمعية الأمنية التي استرجعت طريقتها في اعتقال كل من يعترض أو يحتج، كما لو أن كل ما حدث في الجزائر من حراك شعبي ومدني كثيف أحيانا ومتواتر أحيانا أخرى لم يفعل شيئا سوى تغيير بوتفليقة الذي كان يحكم وهو شبه ميت. بينما تعاني المغرب من سوء أوضاع معيشية وتعاني من قمع واعتقال صحفيين وناشطين بعد محاولات الانفتاح والانفراج وإقرار التعددية السياسية  الذي حدث فيها خلال السنوات الأولى من العقد الماضي خشية من وصول موجات الربيع العربي إليها، عدا عن التوترات السياسية المتعلقة بأزمة الصحراء الغربية والخلافات مع الجزائر الجار الأقرب.

اليمن منسي تماما، تتصارع فيه إيران ودول الخليج، وتنهش لحمه الحروب القبلية والانقسامات والفقر وتردي الأوضاع الاقتصادية، ولا يبدو أن العالم الغربي والأمم المتحدة مهتمة بما يحدث بهذا البلد الذي سمي ذات يوم بـ (السعيد). ومازال السودانيون يحاولون فرض إرادة التغيير المدني  ضد محاولات الجيش السيطرة مجددا على البلاد، وطبعا كغيره من باقي الدول، يعاني السودان من تردي في الأضاع الاقتصادية والمعيشية ومن قمع واعتقالات للناشطين المدنيين في الحراك المتواصل.

ربما نجت مصر أمنيا، لكنها لم تنج من الأزمات الاقتصادية ولا من الظروف المعيشية التي زادت من نسبة الفقر في بلاد تعاني أصلا من نسبة فقر مرتفعة، ولم تستطع ثورة يناير أن تغير من بنية المنظومة الحاكمة، ولا يبدو أن دولة مثل مصر قابلة للتغيير بسهولة، ذلك أن تركيبة مجتمعها متداخلة جدا مع عمق الدولة العسكرية الأمنية فيها، ما يعيق أية محاولة جدية للتغيير. أما دول الخليج العربي فهي تبدو مستقرة تماما، بعد أن تم وأد الحراك البحريني في بداياته، ومع ما يحدث في الخليج من خطوات انفتاحية ماراثونية سوف يبدو الوضع مقلقا، ذلك أن ما يحدث ليس بفعل قوانين ودساتير تتغير، بل بفعل قرارات حكام قد تتبدل وتعود إلى سابق عهدها فيما لو انتصر تيار حاكم على آخر. وطبعا الحديث عن القضية الفلسطينية بات فلكلوريا مع تهافت الدول العربية للتطبيع  الكامل مع إسرائيل، ومع انحياز السلطة لأنظمة الاستبداد ضد الشعوب، وانحياز حماس لإيران التي لم يختل توازن ميزانها التجاري مع إسرائيل طيلة المدة الماضية رغم كل البروباغندا الإعلامية التي تستخدم قضية فلسطين للحفاظ على امتيازاتها في العراق وسوريا ولبنان.

أما الحديث عن بنية المجتمعات العربية الحالية فهو حديث طويل وذو شجون، فقد أفرج الربيع العربي عن العفن الذي كان مختبئا لسنوات طويلة في قاع المجتمعات العربية، العفن الذي تشكل بفعل تحالف الاستبداد السياسي مع السلطة الدينية سواء الرسمية أم تلك التي تدعي معارضة الأنظمة، واتضح أن الهوية المواطنية قد تم إعدامها تماما لصالح هويات ضيقة وعاجزة ولا تنتج غير الفشل والتردي، وما خروج معظم الدول العربية من تصنيف اليونسكو لجودة التعليم إلا مثال صغير عما تعانيه بلادنا من الخراب، أما النخب السياسية والفكرية الوطنية أو التي تسمي نفسها ديمقراطية معارضة فاتضح أنها ليست أقل استبدادا وفسادا من الأنظمة الحاكمة، بل ربما هي ابنتها الشرعية، لم تتمكن بعد مرور عقد من الزمن على بداية الحراك الشعبي من  تقديم أي مشروع بديل يعتد به، ولم تقم بأية مراجعة حقيقية لبنيتها ولبنية ثورات الربيع العربي على طريقة ريجيس دوبرييه في كتابه (ثورة في الثورة)، مما أتاح للثورات المضادة التي قنصتها الأصولية الدينية والمنظومة العسكرية  أن تنتصر بكل الخراب الذي يعممه انتصارها، أما هزيمة الربيع العربي وهزيمة أحلام المؤمنين به فليست سوى هزيمة لفكرة حاضر الأوطان ومستقبلها لصالح منظومات ماضوية  لا يبدو أن العقد الجديد سوف يتمكن من خلخلتها كثيرا.