عفواً آباء الاستقلال.. سامحونا!

2021.04.19 | 05:08 دمشق

rwsy-hmymy-akhtfal-yd-aljla.jpg
+A
حجم الخط
-A

17 نيسان ذكرى جميلة في خاطر كل سوري؛ لكن حال سوريا الحاضر يضفي حزناً 0على الذكريات الجميلة؛ لهذا ما كُنتُ أفكر، بالحديث عن ذكرى تستحضر أوجاعاً في الروح السورية، لولا حدث تم بالأمس في "حميميم" السورية، التي تحوّلت إلى قاعدة للاحتلال الروسي في سوريا.

في حميميم، وللمفارقة الغريبة العجيبة الوقحة، يحتفل المحتل الروسي بذكرى جلاء الفرنسيين عن سوريا؛ وكأن وجود الروس في سوريا رسالة في الحرية والديمقراطية والقانون وتضميد الجراح السورية!

حاول الاحتلال تقسيم البلاد، وبث أمراض الطائفية وسياسة "فرّق تسد"؛ ولكن الوطنيين السوريين أفشلوا مخططاته

مثل الأمس قبل ثلاثة أرباع القرن، كان جلاء آخر جندي فرنسي عن سوريا. دام الاحتلال قرابة ربع قرن؛ ما ارتاح الفرنسيون خلاله لحظة. انطلقت ثورة السوريين الكبرى عام ١٩٢٥؛ وما توقفت إلى عند الاستقلال. حاول الاحتلال تقسيم البلاد، وبث أمراض الطائفية وسياسة "فرّق تسد"؛ ولكن الوطنيين السوريين أفشلوا مخططاته. وفي النهاية، كان نصر الحرية والاستقلال ووحدة الأرض والشعب.

تَبِعَ الخروج الفرنسي حكمْ وطنيٌ لقرابة عقد من الزمن: حرية، دستور، برلمان، انتخابات، وقانون، وانطلاقة مزدهرة. وفي غفلة من القانون والأخلاق، بدأت سوريا تنام على انقلاب عسكري، لتصحى على آخر.

واستمر الحال إلى منتصف ستينيات القرن الماضي، عندما بدأت "الأسدية" تغرز مخالبها في الجسد السوري المنهك. كان التعميد الأول للأسد، بدفع قطعة من سوريا للمحتل الإسرائيلي عام سبعة وستين؛ وكانت مقدماً أوصله الى السلطة؛ ليتحول بعدها الى حاكم مطلق أو حاكم بأمره. وبعدها قتل الفلسطينيين وقضيتهم، وانفتح على ملالي طهران، وساهم بإنشاء "حزب الله" ليحمي بتبعيته حدود الكيان الصهيوني الشمالية.

على صعيد عربي، ساهم بجعل العرب عُرْبان تحت يافطة "الوحدة" و "التضامن العربي"؛ وفي الداخل السوري، كانت السيطرة المطلقة على مقدرات سوريا، وكان سحق العلم والثقافة، وتمزيق النسيج الاجتماعي، وتجفيف الحياة السياسية بالمطلق؛ لتصبح زيارة ضريح قائد الثورة السورية الكبرى سلطان الأطرش جريمة. ومع نفوق مؤسس الاستبداد، كان تتويج الوريث لتتحوّل سوريا إلى جمهورية وراثية ولتُثبَّت كنيتها الجديدة: "سوريا الأسد".

 دام ذلك حتى عام 2011؛ وانطلقت ثورة الحرية والاستقلال من جديد؛ ليجد السوريون أنفسهم يقاومون أكثر من احتلال، وعلى رأسها الاحتلال الأسدي. وجدوا أنفسهم يقاومون ميليشيات إيران و"حرسها الثوري" كاستعمار استيطاني يغيّر ديموغرافياً، ويهتك النسيج الاجتماعي السوري بنشر المخدرات والدعارة والتشييع؛ واحتلال روسي ينشر الدمار والقتل والتشريد والحماية السياسية لمنظومة الاستبداد. وبوقاحة يحتفل هذا الأخير في قاعدة عسكرية بعيد استقلال سوريا.

الجلاء ذكرى غالية على قلوب السوريين. يجعلها نظام الاستبداد وحماته الروس مقيتة وثقيلة على هذه القلوب

الأغرب والأوقح من كل ذلك، وبمناسبة ذكرى الاستقلال، لازال التبجح بوحدة وسلامة وسيادة أرض سوريا وشعبها من قبل الاحتلال الأسدي والاحتلالات الأخرى. ولكن للأسف في وحدة الأرض، سوريا الآن خمسة إقطاعات، وشعبها خمسون قطعة؛ وفي السلامة، نصفها مدمر، واقتصادها منهار، وأهلها تبعثروا في أربع أصقاع الأرض، ومن بداخلها يعيش رعباً وعوزاً ومذلة؛ أما في السيادة، فلرئيسها كذا رئيس وآمر يتحكمون حتى بتنفسه؛ والمواطن متروكة حياته ومصيره لجملة من الاحتلالات لتقررها. إنه "استقلال" الاحتلال في بلد سلطته داست كرامته.

لم تكن ثورة سوريا الكبرى على الاحتلال الفرنسي عام خمسة وعشرين بلا دم أو تضحيات ومواجع؛ وما كانت القدرات المعرفية والمادية والبشرية عند أهل سوريا كما كانت عام 2011؛ ولا يمكن مقارنة الاحتلال الداخلي وما جلبه من احتلالات بما كان من الاحتلال الفرنسي؛ ولكن مقاومة الحالتين كانت العنوان. الاحتلالات الحاضرة ارتكبت كل محرَّم. ويبقى الاحتلال احتلالاً، وخارج إرادة أهل البلاد، ولكن ومن باب المقارنة البسيطة، إذا كان الفرنسيون بنوا مدارس ومشافي، فالاحتلال الروسي بنى قواعد عسكرية ودمر المدارس والمشافي؛ وإن كان الاحتلال الفرنسي قد أوجد قانوناً ومحاكم وقضاء، فالاحتلال الروسي عمل بقانون الأرض المحروقة، وحكم على شعب سوريا بمزيد من الاستعباد والركوع.

الجلاء ذكرى غالية على قلوب السوريين. يجعلها نظام الاستبداد وحماته الروس مقيتة وثقيلة على هذه القلوب، عندما يقيمون مهرجاناً خطابياً في قاعدة حميميم بهذه المناسبة. ما أوقح تلك المخاليق، وكم هو واجب مقاومتها. وما فعله السوريون قبل قرن سيفعلونه ثانية لنيل حريتهم واستقلالهم ليس من الاحتلال الروسي فقط، بل ممن تمسك أجداده بالاحتلال يوماً. بئس "دولة عظمى" كروسيا العظيمة أن تُحكَم من قبل دكتاتور أصدر بالأمس قراراً بأن يحكم أبدياً، ويريد تكريس ذلك في بلادنا. وهذا لن يكون؛ سيحقق السوريون استقلالهم، ويطردون كل الاحتلالات ومَن جلبها. وبهذه المناسبة، نطلب السماح والمغفرة من آباء استقلال سوريا الأول؛ وتحية مقدماً لأبطال استقلال سوريا الثاني القادم.