عفرين بين صورتين (3)

2022.03.03 | 05:27 دمشق

a7665a5d-786f-48ce-bbbb-c75652d8b975.jpeg
+A
حجم الخط
-A

"أنا لست متعصبة، وعندي الآن صديقات عربيات من أسرٍ مهجّرة. لكني لا أنسى، ولا أستطيع أن أنسى، ما تعرضنا له في تلك الأيام. كنا نخاف الخروج إلى الشارع حتى في أثناء النهار. الكثير من صبايا عفرين تعرّضن للتحرش بعبارات مقرفة. صرنا نرتدي الحجاب والثياب الفضفاضة كي لا يعرفوا أننا كرديات". هكذا بدأت "نيرمين" التحدث بوضوح أكبر، بعد أن كان حديثها في البدايات محملاً بالمجاملة. مجاملات تشبه الصفعة لمن يبحث عن حقائق الأمور. فتاة كردية شابة، شديدة الحرص في آرائها ومواقفها. طريقتها تذكِّر بتعامل السوريين مع مخبري الأسد منذ عقود، فلا شيء حقيقي قبل أن تطمئن إلى محدّثها. نيرمين طالبة وفنانة تشكيلية. بعد فترة من وصول المقاتلين إلى عفرين، جاء النازحون وكان منهم صبايا بعمرها "سمعت بأذني ورأيت بعيني، تعرض بنات النازحين للمضايقات ذاتها، وهنا تغيرت بعض الأفكار بداخلي، فهؤلاء عديمو الأخلاق ليس مع الكرديات فقط، وإنما مع النساء عموماً". سيساعدها والدها فيما بعد، بتأكيده على جهل وتخلف هؤلاء المتحرشين، وأن المستهدف لم يكن قوميتها، فكثير من هؤلاء لا يدركون الفوارق العرقية "قال والدي إنه جلس مع شابين يعتقدان أن الكوردية دين. لم يذكر ذلك كي يبرر للمتحرشين، بل ليوضح مدى جهل بعضهم".

مع مرور السنوات، تغيرت أمور كثيرة. نيرمين الآن عضو في فرقة مسرحية، فيها عرب وكرد وشركس، تربط بعضهم ببعض علاقات مميزة، ولديهم طموحات كبيرة تجاوزوا بسببها بعضاً من تشوهات الماضي القريب. "أصبحت أتقبّل كلمات ثورة وثوار، وأحمل الكثير من الود لأشخاص يلبسون حول معاصمهم علم الثورة. لم أكن أتخيل أن مثل هذا قد يحدث، لكنه حدث". آراء نيرمين ومواقفها تلك تعرضها اليوم للهجوم من بعض الكرد الذين يعيشون في الخارج، لكنها ترى أنها تجاوزت الاصطفافات القومية. "ما يعنيني هو سلوك الإنسان معي، بغض النظر عن قوميته، أو كونه نازحاً أو عفرينياً" ختمت نيرمين.

كثير من هؤلاء ليسوا ضد الكرد بوصفهم كردا. وسلوكهم العام ليس من باب العداء للكرد، بل هو نتيجة جهلهم وتخلفهم وانعدام الأخلاق لديهم

خلال كتابة هذه المادة انتشر خبر مقتل "عبد الرزاق طراد العبيد" النازح من ريف حماة، والمقيم في إحدى القرى التابعة لناحية "جنديرس". العبيد قتل تحت التعذيب في مركز أمني تابع لفيلق الشام. الصور المؤلمة لجسده توضح مدى الوحشية التي تعامل بها الجلادون معه. حالة من الهمجية لا تختلف في شيء عن همجية سلوك جلادي الأسد. وددت من إيراد هذا الخبر هنا التأكيد على ما عبّرت عنه "نيرمين" بأن كثيراً من هؤلاء ليسوا ضد الكرد بوصفهم كرداً. وسلوكهم العام ليس من باب العداء للكرد، بل هو نتيجة جهلهم وتخلفهم وانعدام الأخلاق لديهم. الكرد كانوا الحلقة الأضعف في المنطقة، بسبب سهولة الاعتداء عليهم بالذريعة الزائفة غالباً، وهي تهمة العلاقة بقوات "يي بي جي"، وهو ما لا يستطيعون فعله إلا بصعوبة مع النازحين العرب، والنازحون العرب أساساً ليسوا هدفاً مغرياً، فهم لا يمتلكون في عفرين لا عقارات ولا بساتين لتُصادر ولا مواسم زيتون لتُسرَق. مع ذلك، لا يمكن إغفال أسئلة ملحة سوف تتبادر إلى الذهن عند عقد مثل هذه المقارنات. ماذا لو لم يكن وراء "العبيد" عشيرة قوية لديها مقاتلون هي عشيرة "النعيم"؟ ماذا لو كان عربياً بلا "عزوة"؟ والأسوأ ماذا لو كان كردياً، يمكن اتهامه بيسرٍ، ومن دون رفّة ضمير أنه متعامل مع البي كي كي؟ هل كانت "أمنيّة" ناحية جنديرس ستُحلّ ويُحاكَم جلادوها، كما حصل قبل يومين؟ أسئلة مريرة، لكن الإجابات أكثر مرارة.

لدى "الأستاذ شاهين" ما يفسر، دون أي تبرير، حال الكثيرين من الكرد والعرب في عفرين "ما يجري غريب، ولكنه مفهوم، فالجميع عاشوا ظروفاً قاهرة في السنوات العشر السابقة". الرجل موظف سابق، مثقف وله نشاط حزبي مما قبل عام 2011 ومستمر إلى الآن. يعتز بأن لديه أصدقاء من المهجرين الذين يقطنون عفرين وقراها اليوم، منهم من ساعدوه كما ساعدوا آخرين في منع كثير من التجاوزات التي يقوم بها عناصر من فصائل الجيش الوطني، مؤكداً أن من بين ضباط الجيش الوطني يوجد شرفاء كثر "الأمور لم تعد كما كانت في الشهور الأولى من دخول فصائل الوطني لعفرين. نعم الأمور ليست مثالية الآن، ولكنها أيضا ليست بالسوء الذي ما زالت تروّجه الأحزاب الكردية المتعصبة". يرفض شاهين أي فكرة تعميمية عن الكرد أو العرب "الكثير من النازحين الذين يسكنون بيوتاً في عفرين، يحاولون جهدهم لعدم التأخر في دفع أجرة المنزل، بينما هناك بعض من سكان عفرين يرفضون تأجير بيوت أقاربهم الفارغة. هذا ملكهم نعم، ولكن في مثل هذه الظروف يجب أن يراعي الإنسان ظروف الناس، خصوصاً أن من يأتون يريدون بيوتا كمستأجرين يدفعون ما يترتب عليهم، رغم أن هناك من عرض عليهم بيوتا مصادرة بالمجان لكنهم رفضوا". بعد دعوتنا للزيارة في الربيع كي نتعرف إلى جنّة اسمها عفرين، ختم بقوله: "لازم نساعد أولاد الحلال من المهجرين على موقفهم، وليس أن نصعِّب عليهم تمسكهم بالحق".

حسان خير تمثيل لما أورده "الأستاذ حسين" عن قضية البيوت وإيجارها ومصادرتها. وصل حسان وأسرته إلى عفرين مهجرين من ريف "معرة النعمان" قبل عامين تقريباً. ليبدأ رحلة البحث عن مسكن يستأجره، فلم يجد، مما اضطره للإقامة شهوراً عند صهره وأخته في بيت ضاق على الأسرتين. "هناك كثير من البيوت الفارغة التي يرفض أصحابها تأجيرها بدعاوى عديدة. بعضهم يُسكن ابنه العازب في بيت ثان يملكه كي لا يقصده أحد بغرض استئجاره منه، ويَعتبر ذلك حمايةً للبيت، فالبيت الفارغ مطمع لبعض المجموعات التي لن تعدم حيلةً في مصادرته تحت ذرائع صارت معروفة".

مشان التاريخ، ومشان ما حدا يعيّر ابني بيوم من الأيام بأنه أبوه قعد ببيت سلبطة

حاول بعضهم إقناعه بسكن أحد البيوت المصادرة بالمجان، وبعضهم عرض عليه بيتاً فارغاً مقابل مبلغ ألفي دولار، يدفعها لمجموعة تضع يدها على البيت. كان يرفض بإصرار ويردّ بشكل قاسٍ على أصحاب تلك العروض، واصفاً سلوكهم بالجرم الذي يسيء للثورة والشهداء، وكان معظمهم يستهزئ بطوباويته المضحكة. تصاعدت مصاعب السكن المشترك لتبلغ حدّاً فاق صبره، فقبل حسان ببيت مصادر، بعد أن أصر على معرفة اسم مالكه الكردي، والتأكد من أن هذا المالك موجود في عفرين، وليس خارجها. تسلّم البيت المصادر وانتظر عدة أيام، ثم قصد مالك المنزل سراً. فوجئ الرجل بطلب حسان أن يحدد المبلغ الذي يريده إيجاراً لبيته. اتفق الطرفان على المبلغ وأصر حسان على كتابة عقد بينه وبين المالك، وحين استفسر المالك عن الفائدة من عقد لن يسجل لدى أية جهة، ولن يكون هناك أية نسخة لدى أحد سواهما، أجابه بما لم يتخيله صاحب البيت "مشان التاريخ، ومشان ما حدا يعيّر ابني بيوم من الأيام بأنه أبوه قعد ببيت سلبطة". سيخبره المالك أن كثيرين قصدوه بغرض استئجار البيت وتركوا له أن يحدد المبلغ الذي يريد، ولكنه استمر في الرفض، حتى أتى (الثوار) وصادروا البيت، بما فيه من مفروشات وأدوات مطبخ. مرة أخرى سيُفاجأ الرجل بالرد "الثوار يدفعون ثمن ما يأخذون، حتى لو كان سراً كما أفعل الآن، فرش بيتك جمعتهُ في غرفة واحدة، وأقفلت الباب حتى لا يمسه أحد من أفراد عائلتي" وتابع غامزاً "أغراضك اليوم صارت بأمانة الثوار. أنا ثائر مُهجَّر ولست (مستوطناً) كما يحلو لبعض الكرد أن يصفنا". بمساعدة مالك بيته الذي بات صديقه، يسعى حسان اليوم، لإقناع عدد من مالكي البيوت بتأجير بيوتهم لأناس ثقة يعرفهم حسان، ويشبهون حسان، ريثما يأتي اليوم الذي يعود فيه هؤلاء إلى بيوتهم التي هُجروا منها.ِ