"عفرين" بين صورتين (1)

2022.02.17 | 05:17 دمشق

thumbs_b_c_9856e5b8bb76060abff030aadf7983f1.jpg
+A
حجم الخط
-A

"لا. هناك رب سوف يحاسبنا لو كذبنا. قبل دخول الفصائل، تعرضتُ لمضايقات من بعض العنصريين هنا، لكنها لم تصل لدرجة مصادرة الرزق و(السلبطة). أختي في حلب، فهل يعني أنها صارت مع الصهاينة حتى يصادروا بيتها هنا؟" هكذا أجاب الرجل عندما قلت له إنه عربي، ومن المفترض أن يكون وضعه جيداً في الظروف الحالية. عبد الرحمن (وهذا ليس اسمه، حيث لا أسماء حقيقية في كامل هذه المادة/السلسلة) من عشيرة "العميرات" العربية التي تسكن عفرين منذ زمن بعيد، إضافة لعشيرة أخرى هي "البوبنا". يتحدث اللغة الكردية كأي كردي، ويمتلك (دكاناً) في عفرين. انتماؤه القومي لم يشفع له، فقامت مجموعة تنتمي لإحدى فصائل ما بات يعرف بـ"الجيش الوطني" بالاستيلاء على منزله ومنزل شقيقته المقيمة حالياً في حلب. يتابع عبد الرحمن بصوت خفيض، وكأنه يخشى أن يسمعه أحد: "أختي خريجة معهد موسيقى، وعندما دخلت الفصائل، عرفت أن عملها سيكون صعباً، فانتقلت إلى حلب. كان بيتها مؤجراً هنا ونرسل لها الإيجار لتدفع لبيتها الذي استأجرته هناك. اليوم، ومنذ الاستيلاء على منزلها، تعمل دوامين، ومع ذلك تشكو الجوع هي وأسرتها".

كانت الأخت شهدت دخول الفصائل إلى عفرين، ولم تحتمل ما جرى في الشهور الأولى. "نحن من أهل عفرين، وهي رأت الظلم يقع على صديقاتها وجاراتها، وعندما اعترضتْ في إحدى المرات سمعتْ من العبارات ما أخجل أن أكرره الآن" ويستدرك عبد الرحمن "اليوم الوضع أفضل قليلاً. كل من يتعرض للظلم يلجأ للأتراك. عندما يُنهب رزق رجل كردي يهدد الناهبين بالأتراك. وإذا طلب صاحب بيت كردي من مستأجر عربي أن يخلي البيت، أو يدفع زيادة كبيرة للإيجار، سيلجأ العربي أيضاً للتهديد بالأتراك". عبد الرحمن يعتبر الأمر نقيصة، بسبب أنه لم يشاهد تركياً يهدد آخر بطرف ثالث، كما يفعل السوريون في عفرين. إذاً هل باتت الأوضاع مقبولة اليوم؟ "لا" ممدودة وطويلة، يجيب بها الرجل على الفور، ويضرب العديد من الأمثلة أحدها: "أمس دخل إلى محلي عنصران بالزي العسكري الخاص بإحدى الفصائل، جمعا في (كيس) ما يرغبان بشرائه، وبدل أن يسألا عن السعر، تركا مبلغاً يعادل نصف قيمة ما أخذاه ومضيا". يستدرك عبد الرحمن، من باب الإنصاف، أنهم أحياناً يدفعون المطلوب. يحدث هذا حين تكون أحوالهم المادية جيدة، مضيفاً "عندما عادوا من أذربيجان كانت أمورهم ممتازة، وعشنا عدة شهور نأخذ حقنا كاملاً، أما الآن فأحياناً يدفعون أقل، وأحياناً يقولون: (بعدين مندفعلك)، وهو ما لن يحدث أبداً".

بعد تطوع عدد من شبان عشيرتَي البوبنا والعميرات في فصائل "الجيش الوطني"، خسر عبد الرحمن الكثير من أصدقائه الكرد الذين قضى معهم طفولته وكامل حياته. الأمر الذي يسبب له غصّة كبيرة، خصوصاً مع تأكيده أن هناك عدداً من الكرد قد بنوا علاقات وطيدة مع قادةٍ كبار من العرب، بل وأكثر من ذلك، فمن هؤلاء من صار يخبر عن أكراد آخرين كانت لهم نشاطات أمنية وعسكرية قبل دخول الفصائل. "بكل طرف يوجد ظالمون ومظلومون، وحتى من عائلتي هناك فاسدون وأوباش، ولكن ما علاقتي أنا؟ للأسف اليوم، التعصّب أعمى قلوب الجميع" بهذا التعميم بالغ القسوة، ختم العفريني العربي عبد الرحمن حديثه.

قبل فترة، سيخبرني صديق أنه زار رجلاً كردياً يعمل مزارعاً في قرية "الباسوطة". حاول الصديق (وهو عربي) إقناع أبو إسماعيل بأنه سوف يدفع ثمن الجوز ودبس الرمان الذي سيشتريه منه، ولكن الرجل بقي على إصراره بأنه لم يعد لديه سوى مؤونته الخاصة. حتى أنه بداية، لم يقم بدعوته لدخول البيت، إلا بعد أن مازحه الضيف "لدي ترمس قهوة وأدعوك لفنجان على الرصيف هنا، ولم أعد أريد لا جوزاً ولا دبساً". صمت الرجل قليلاً قبل أن يدعوه لدخول البيت، وهو يتمتم: "بحياتنا لم يكن لدينا ضيف يقف على الباب" وأنهى جملته بلعن الأيام التي أوصلتنا إلى هذا. في البيت استقبلت الزوجة الضيوف بوجه يكاد يخلو من أي تعبير، بينما كانت تنظر لزوجها بحيرة واستغراب يشي بتجارب سابقة لم تكن طيبة. بعد الأحاديث السورية التقليدية في التعارف، تحدث الرجل خلالها أين قضى خدمته العسكرية الإلزامية، وتصادف أنها كانت في مدينة الضيف، وكم أحب تلك المدينة، وكيف عمل في دمشق عندما كان شاباً، وتابع بالاستفسار من ضيوفه عن أسرهم وتحصيلهم الدراسي وبعض الذكريات قبل التهجير. أحاديث بسيطة ودودة أدّت بعد لحظات لانقلاب تام في ملامح أبو إسماعيل، فانفرجت في عينيه ابتسامته الأصليّة التي غيبتها تشوهات السنوات الأخيرة.

أبو إسماعيل أب لشابين يقيمان الآن في تركيا، ولثلاث بنات اثنتان منهن متزوجتان في القرية، وكان له سابقاً نشاط مع عدة أحزاب. "مشتاق لولديَّ، لكني أخاف أن يتم اعتقالهما لو عادا للباسوطة. سوف أرسل عروس إسماعيل إلى تركيا قريباً". سيسأل الضيفُ إن كانت قد حصلت حالات زواج بين أهالي عفرين والمهجرين؟ بشكل قاطع سيجيب أبو إسماعيل بالنفي مضيفاً "لا نزوج بناتنا للعرب، ولا هم يفعلون". كان الجواب قاسياً على الضيف، فتابع بالسؤال إن كان هذا إرثاً قديماً، "أبداً، فقط في السنوات الأخيرة، حصلت حالات زواج كثيرة في الماضي. أما الآن فحاجز الدم أصبح عالياً بيننا وبين العرب". تابع الضيف بسؤال طريف ومربك "حتى لو كان العربي لبنانياً أو فلسطينياً أو مصرياً؟" لم يجب أبو إسماعيل.

تابعت مع الصديق بعد شهور. عندما عاد لزيارة أبو إسماعيل بموعد مسبق، وجد الأسرة كلها باستقباله، الأب والأم وبناتهما. كانت جلسة ودودة مع الكثير من المزاح العربي الكردي المتبادل. تحدث الرجل خلالها حتى عن تجارب النهب التي تعرضت لها مواسم زيتونه في سنوات سابقة، مستدركاً، أنه لا موسمه ولا مواسم إخوته تعرضت لأي شيء هذا العام، فهناك علاقة جيدة باتت تربطه اليوم بقائد كبير من "الحمزات"، وقد زاره في بيته هنا قبل فترة. تحدث أبو إسماعيل عن نشاطه السياسي وعن موقفه المناصر للثورة عام 2011 (كانت زوجته تؤمّن على كل كلمة يقولها) وأنه لم يكن راضياً عن كثير من تصرفات قسد حين كانوا في عفرين، لكن المشكلة أن من أتوا بعدهم لم يكونوا ثواراً. هنا سيقاطعه الضيف: "ومن قال لك إن الذين سلبوا ونهبوا وسرقوا كانوا ثواراً؟ ومن قال إن الجميع مثلهم؟ قبل التهجير وعندما كنا في مدننا تعرضنا لمواقف مشابهة من أمثال هؤلاء، علماً أننا كنا جميعاً عرباً، بل وكنا جيرانهم أحياناً". حين همَّ الضيف بالمغادرة تبعته أم إسماعيل إلى الباب بكيس جوز وزجاجة دبس رمان. حاول التمنع فأقسمت المرأة: "والله ما بيرجعوا. نحنا أهل". عند الباب سأل الضيفُ صاحب البيت ممازحاً: "لو كنت شاباً أعزب، هل ستقبل بي صهراً عربياً؟" وسيجيب أبو إسماعيل ضاحكاً: "نتشرف بك، لكن ليس الآن، ما زال الأمر صعباً. الله يرجعكم سالمين على بلدكم وسنزوركم أنا والعائلة هناك".

الروايات من عفرين متناقضة إلى حدود التعارض الصارخ، وقد يحمل كل منها جانباً من الحقيقة، لكن يبقى جزء منها مما يمكن وصفه بالمسكوت عنه. رواية أي طرف ستتعرض للتكذيب والتخوين من الطرف الآخر. وروايتي هنا قد لا تنجو من ذلك فهي ليست كامل الصورة الحقيقية، لكنها بالتأكيد ليست خيالاً رومانسياً توفيقياً، فأنا لا أحمل مشروعاً يهدف إلى استعادة التقارب الكردي العربي، رغم أنها واحدة من أمنياتي. ما أورده هنا قصص حقيقية ودقيقة بكل تفاصيلها، كما جمعتها وتحققت منها منذ فترة ليست بالقصيرة. لا أطمح أن يصدقها أصحاب الروايات الأخرى، وأقصى أحلامي الآن هو أن أنجو من تلك التهم. ومع ذلك ليس ذلك مهماً، فالحقيقة، ولو بدت للبعض منقوصة، تستحق.